بقلم: راغدة درغام – النهار العربي
الشرق اليوم- تنشغل قيادات الجمهورية الإسلامية الإيرانية بما يحدث في جيرتها العراقية والأفغانية بقلقٍ ملحوظ، لكن بعزمٍ قاطع على ضمان تعزيز تحويل العراق دولة تابعة لإيران (ساتلايت)، واستخدام نموذج “الحشد الشعبي” العراقي في أفغانستان للتصدّي لـ”القاعدة” و”داعش” ولتحجيم “طالبان” الذي سيحكم على وتيرة الانسحاب الأميركي من أفغانستان. هذه القيادات التي تشمل مرشد الجمهورية علي خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي ورجال الحرس الثوري لن تتخلى أبداً وإطلاقاً عن إنشاء الميليشيات في الدول التي تريد امتلاكها أو تدجينها مع تدريبها ومدّها بالسلاح والذخيرة لتتحدّى السيادة في تلك الدول وتكون طائعة لطهران.
ما تراهن عليه هو المباركة الصامتة لهذه الاستراتيجية من الدول الغربية، بالذات إدارة بايدن، وحكومات بريطانيا وفرنسا وألمانيا، ليس لمردودها السياسي فحسب بل، والأهم، للمردود المالي من رفع العقوبات بموجب إحياء الاتفاقية النووية في مباحثات فيينا. فالجمهورية الإسلامية الإيرانية، بمرشدها ورئيسها وحرسها الثوري، في حاجة الى تلك الأموال التي ستهبها لها الحكومات الغربية تكيّفاً مع تكتيك الابتزاز النووي الذي أسقطت فيه طهران هذه الدول. ولذلك فإن هذه القيادات في عجلة من أمرها لاستكمال مفاوضات فيينا كي لا تداهمها تطورات مفاجئة، وكي تكفل تدفّق الأموال عليها لتنفّذ مشاريعها الإقليمية الخطيرة.
في هذه اللحظة، دخلت مفاوضات فيينا في الركود لأسباب عدّة، منها رئاسة رئيسي، ومنها الانشغال بالانسحاب الأميركي من أفغانستان والعراق، والمخاوف من خطط إيرانية تحوّل العراق بالذات ساحة للفوضى والاضطراب للهيمنة على مصيره.
طهران اتصلت بعواصم صديقة وطلبت منها التدخّل بهدف تسريع وتيرة المفاوضات في فيينا للتوصّل الى قرارات نهائية عاجلاً. إحدى العواصم المقرّبة من طهران، وهي عضو أساسي في مجلس الأمن الدولي وفي مفاوضات فيينا، أبلغت القيادة الإيرانية أنها عاجزة عن التسريع، وأن السرعة يجب ألا تكون محرّك المفاوضات.
السبب وراء الاندفاع الإيراني اقتصادي ومالي بالدرجة الأولى، نظراً الى رفع العقوبات الأساسية التجارية والمالية والنفطية، الذي تحتاجه إيران. لكن هناك أيضاً التوتّر في الداخل الإيراني واضطرار طهران الى تطبيق القمع للتظاهرات على نسق ما فعلته سابقاً. وبما أن الرئيس جو بايدن نصّب احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية رايةً لرئاسته، فقد تعرقل هذه التطورات الداخلية القرارات الاستراتيجية، أو أقلّه تسبب الإحراج لبايدن وفريقه المتحمّس لإحياء الاتفاقية النووية JCPOA مع حكّام طهران.
هناك أيضاً ملامح الصراع الداخلي في صفوف حكّام طهران، ما أدّى ربّما الى تأجيل “الاجتماع الاستراتيجي”، الذي كان مُزمعاً عقده هذا الأسبوع، لفترة أسبوعين.
ثم هناك العراق. بالرغم من التطمينات والمجاملات ورنَّة “الحوار الاستراتيجي” بين الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي، يبقى العراق أولوية في الاستراتيجية الإيرانية العازمة على تدجينه وصقله كما تشاء. طهران تُوجّه الرسائل الى الأميركيين والأوروبيين والخليجيين وكل من يعنيه الأمر، وفحواها: إيّاكم التدخل في خططنا للعراق.
فالانسحاب الأميركي من العراق يوفّر لإيران فرصة مذهلة ورائعة: فرصة تحويل العراق ساتلايت Satellite لإيران. لذلك ترفض طهران قطعاً أي ربط كان، مباشراً أو غير مباشر، بين مفاوضات فيينا النووية وسياساتها الإقليمية. ترفض بصورة قاطعة كل ما من شأنه أن يربط أيديها في العراق أو يعرقل تنفيذ مشاريعها الإقليمية الممتدة عبر العراق. فإيران بحاجة لامتلاك العراق بعدما ضمنت ملكية في سوريا عبر رئيسها بشار الأسد الخاضع للقرارات الإيرانية.
كل شيء وارد في العراق، وبسرعة، من تغيير حكومي، الى استراتيجية وتكتيك جديد للحشد الشعبي، الى انتخابات ملوثة أو نظيفة أو لا انتخابات. فالعراق خارج صندوق التوقّعات والتنبؤات ما بعد الانسحاب الأميرك، بالرغم من بقاء المستشارين الأمنيين والى ما هناك. بل إن خبراء دولة صديقة لإيران مختصّون بمراقبة تطوّرات العراق يتوقّعون اندلاع الفوضى turmoil مع حلول أيلول (سبتمبر) نتيجة تراكم كل هذه الأسباب ذات العلاقة بالاقتصاد والسياسة وبرنامج الحشد الشعبي ومشروع إيران.
الآراء حول العراق وأفغانستان ومشاريع إيران توافقت واختلفت أثناء الحلقة الافتراضية الـ40 لقمّة بيروت أنستيتيوت في أبو ظبي التي استضفتُها وشارك فيها كل من: الأمير تركي الفيصل، رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، والرئيس الشريك لقمّة بيروت أنستيتيوت في أبو ظبي. توبايس ألوود، عضو البرلمان البريطاني ورئيس لجنة الدفاع Defense select Committee. هوشيار زيباري، نائب رئيس وزراء ووزير خارجية ووزير المالية العراقية الأسبق. ومايكل نايتس، زميل في “واشنطن أنستيتيوت” متخصص في الشؤون العسكرية والأمنية للعراق، إيران، اليمن، ودول الخليج العربية.
رأي الأمير تركي الفيصل هو أن “الحشد الشعبي، شأنه شأن حزب الله والحوثيين، هو بالطبع أداة تُلبّي طموحات إيران، ليس فقط في جزئنا هذا من العالم بل في كل مكان، في اعتقادي. وكمثال، الإتجار بالمخدرات، الذي يقوم به حزب الله من أميركا اللاتينية الى أميركا الى أوروبا والشرق الأوسط. فهكذا يستخدم الإيرانيون الأدوات التي ينصّبونها في الدول”.
بالنسبة الى العراق، تابع الفيصل “بالطبع كلنا يريد النجاح للكاظمي. لكن للأسف، يستمر الحشد الشعبي في إطلاق صواريخه على المناطق المحميّة في بغداد، على السفارة الأميركية وغيرها. وبالتالي، إن (الكاظمي) لم يتمكّن بعد من تحويله (الحشد الشعبي) عنصراً عراقياً من القوات الأمنية، مع أنه، رسميّاً، هو جزء من القوات الأمنية العراقية. وهذا هو ما يحدث في أي أدوات تستخدمها إيران”. وأضاف أن “الحشد الشعبي في أفغانستان لن يكون بدوره تحت سيطرة طالبان إذا تمكنوا (طالبان) من السيطرة على كابول أو أي حكومة تأتي الى كابول بعد الانسحاب الأميركي. وهذا ما يجب أن تفكّر فيه ملياً”. وأكد الفيصل أنه “من وجهة نظر المملكة العربية السعودية بشأن إيران، كل ما سيخرج (عن مفاوضات فيينا) سيكون مشوّهاً ويفتقد عناصر مهمّة، وهي طموحات إيران خارج الحدود الإقليمية، ليس فقط في العالم العربي، ولكن أيضاً، كما نرى الآن، في إعلانهم تأسيس الحشد الشعبي في أفغانستان”.
رأي هوشيار زيباري هو أنه “كان من الواضح أنهم (الإيرانيون) متوتّرون. هم قلقون لمغادرة الولايات المتحدة أفغانستان واستيلاء طالبان على حدودهم. لقد بدأوا بالفعل تأسيس الحشد الشعبي، وهذا مؤشر الى أنهم غير مرتاحين لهذا التطوّر”. وعن الوضع العراقي، قال زيباري إن “الكاظمي يسعى وراء سياسة أكثر استقلالاً”. وردّاً على ملاحظة حول التحيّة العسكرية التي أدّاها الكاظمي للحرس الثوري ومعانقته أحد أركانه قبيل توجهه الى واشنطن، قال زيباري: “نعم، لقد شارك في العرض العسكري (للحشد الشعبي)، لكنهم هاجموه مرتين. لقد قاموا بغزو المنطقة الخضراء مرتين لاستهدافه شخصياً. إنه يسعى الى التوازن ويجب أن ننظر الى ما حققه في واشنطن من برنامج زمني لإعادة الانتشار أو لخروج القوات الأميركية”. وبحسب زيباري، فإن المحادثات الاستراتيجية بين بايدن والكاظمي أدّت الى “إعادة تأكيد الالتزام (الأميركي)، ليس فقط عسكرياً، بل أيضاً على صعد عدة”. وقال إن الفائز والمستفيد الأول هو العراق.
مايكل نايتس وافق على أن “العراقيين يخرجون جيداً نسبياً” من الجولة الأخيرة من الحوار الاستراتيجي مع واشنطن، “فلن يكون هناك انسحاب عسكري أميركي من العراق. إنه إعادة تصنيف لدور القوات الأميركية في العراق من قتالية الى غير قتالية. وبالحقيقة إنها الآن بالفعل غير قتالية”. وأضاف أن “الميليشيات ستستمر في إطلاق الصواريخ والطائرات بلا طيار على الولايات المتحدة والحكومة العراقية، وعلى المملكة السعودية من إيران. لكنهم سيزدادون عزلة، في حين أن العلاقة بين الولايات المتحدة والعراق مستمرة في أن تصبح أقوى بكثير”.
توبايس ألوود وجّه اللوم الى الغرب، والولايات المتحدة بخاصة، في شأن ما حدث في أفغانستان والعراق. قال: “ذهبت جيوش الغرب الى العراق في مهمّة لم تكن ضرورية، وبدلاً من أن يحرروه احتلّوه”. وأضاف أن “ما يحدث في العراق ودور الحشد الشعبي في عدم استقرار البلد دليل على أن الغرب لم يكمل المهمّة هناك، وسمح للمتطرّفين بالهيمنة على الأوضاع مثلما حصل في أفغانستان والصومال”.
ورأى أن “الصين تستغلّ فرصة الاستفادة استفادة كاملة من الفجوات، شمالاً ويميناً وفي الوسط، حتى في أماكن مثل لبنان حيث تهدي المعدات العسكرية. وما أخشاه هو أن حرباً ناعمة تلوح في الأفق مع الصين، فيما كنّا نأمل أن تنضج لتصبح مواطناً عالمياً.
الصين باتت حليفاً للجمهورية الإسلامية الإيرانية بموجب الاتفاقية الاستراتيجية البعيدة الأمد بينهما. قد يهمّها ألاّ تعكّر طهران على الصين برامجها العالمية والإقليمية الكبرى والتي تشمل دول الخليج العربية، وفي مقدمتها السعودية والإمارات، لكنّ تدخّل بكين المباشر للتأثير في السلوك الإيراني الإقليمي نحو السعودية، مثلاً، ليس جليّاً حتى الآن. ولعلّ الصين في انتظار وضوح هوية الجمهورية الإسلامية الإيرانية في عهد إبراهيم رئيسي”.
رئيسي في حاجة لما يسمى “التجديد الاقتصادي” في إيران، وهو يحاول أن يطمئن السعودية الى أنه جاد في سعيه الى الحوار والتفاهم معها. أحد المصادر المقرّبة الى طهران قال إن اتصالات جدّية جداً بين السعودية وإيران ستجري في أواخر شهر آب (أغسطس)، وإن إيران تتحدّث بلغة عمليّة المصالحة reconciliation مع السعودية.
الأمير تركي الفيصل ليس متفائلاً بنجاح المباحثات السعودية – الإيرانية التي تمّ إجراء جولات منها في العراق. اعتبر أن إبراهيم رئيسي مُفرِط في حماسته ما دامت السياسات والتصرفات الإيرانية مستمرة على ما هي عليه. قال إن “السيد رئيسي أعطى الانطباع بأنه خلال الأسبوعين المقبلين سيتم ترميم restore العلاقات، وسيكون العالم في حال رائعة honky-dory وسنغمر بعضنا بعضاً، والى ما هنالك. إن ما يفصلنا عن الإيرانيين هو تاريخ ضخم من وقائع تنفيذية للطموحات الإيرانية في هذا الجزء من العالم الذي ننتمي اليه. فما أقوله بكل احترام، وهذا رأيي الشخصي، أن ذلك لن يحصل قريباً، إذا حصل على الإطلاق”.
رأي الفيصل هو أن “الهجمات الإيرانية على المملكة السعودية ليست شيئاً يمكن للمملكة أن تتجاهله ببساطة، لتعتقد أن شخصاً مثل رئيسي، الذي إذا نظرنا الى تاريخه نجده الأكثر تطرّفاً في مشهد التوجيه الإيراني تحت ما يسمّى بالثورة الإسلامية. ولا أعتقد أنه سيكون لديه الكثير للمضي قُدماً به ما لم تغيّر إيران الطريقة التي تعمل بها”.
لا مؤشر الى أي نيّة لدى قيادات طهران بتغيير استراتيجيتها الإقليمية. فهي واضحة في ذلك. إن الذين يرفضون قراءة السطور في الاستراتيجية الإيرانية، وليس بين السطور، هم الذين يورّطون العراق في مأزق، ولربما في مأساة لن تتوقف عند قضم سيادة العراق بعد قضم سيادة لبنان وسوريا واليمن، لكن قد تمتد لتورّط دول آسيا الوسطى كلها. فمقابل كل ميليشيا إيرانية تولد ميليشيات “القاعدة” و”داعش” وأمثالها. فحذار يا صنّاع القرار في الولايات المتحدة والدول الأوروبية من أن تتظاهروا بأنكم لا تسمعون ولا تقرأون ما تقوله لكم إيران.