بقلم: راجح الخوري – الشرق الأوسط
الشرق اليوم – كان الرئيس نجيب ميقاتي أول الذين خرجوا من الاستشارة النيابية مع الرئيس ميشال عون يوم الاثنين الماضي، واكتفى بأن يقول للصحافيين كلمة واحدة: «راجع»، ومنذ تلك اللحظة تلاحقت مجموعة كبيرة من التحليلات والتصريحات السياسية، أجمعت على التساؤل: أهلاً بالراجع، ولكن متى وعلى رأس أي حكومة وكيف؟
لا حاجة للذهاب بعيداً.. يكفي أن يتوقف المراقب أمام مجموعة من العوامل التي تضع كلمة «راجع» في خانة تغلب عليها ظنون سلبية، ليس لأن الرئيس نبيه بري سارع إلى القول «العبرة في التشكيل لا في التكليف»، ولا لأن النائب محمد رعد من «حزب الله» قال لدى خروجه من قصر بعبدا: «اليوم مع ظهور مؤشرات تلمح إلى إمكان تشكيل حكومة، لا نعرف إذا كانت ستظبط أو لا تظبط».
وزيادة في الإيحاءات المتناقضة، خرج الرئيس سعد الحريري بعد ميقاتي مباشرة من الاستشارات، ليقول إنه سمّى ميقاتي ولكن «على أساس متابعة المسار الذي اتفقنا عليه في بيت الوسط». وكان رؤساء الحكومات السابقون بمن فيهم ميقاتي اجتمعوا قبيل المشاورات، ثم وقف الرئيس فؤاد السنيورة ليدلي بما يوحي مباشرة أن المسار الذي انتهى باعتذار الحريري بعد تسعة أشهر، هو المسار الذي يفترض أن يسلكه ميقاتي، الذي كان قد قيل إنه إذا لم يوفق في التشكيل قبل الرابع من أغسطس (آب) سيعتذر أيضاً.
أمام تصريح الحريري عن هذا «السياق»، تجاوز المراقبون كلام الرئيس عون عن أن ميقاتي مختلف وأنه «يجيد تدوير الزوايا»، وتوقفوا ملياً أمام مندرجات «المسار» المتصل بعدد وزراء الحكومة وبطريقة توزيع الحقائب فيها، وبقصة الثلث المعطل الذي يتمسك به عون مباشرة أو بطريقة التفافية ضمنية، وأيضاً بتقاسم تسمية الوزراء المسيحيين، وبحصة عون في الحكومة، وهو الذي كان يرفض أن تكون هناك حصة للرئيس السابق، وبتسمية الأفرقاء السياسيين وزرائهم أو عدم تسميتهم، ثم ما هو المعيار المقبول للوزير المختص، ومن الذي سيسمي وزيري الداخلية والعدل، والبلد يتجه أولاً إلى الانتخابات النيابية، التي لوزارة الداخلية فيها اليد الطولى، وهذا أمر مهم للتيار الوطني الحر الذي يتحسس تراجعاً كبيراً في شعبيته، وثانياً يواجه البلد أهمية دور وزارة العدل في التحقيق في انفجار المرفأ الذي أثار عاصفة حول رفع الحصانات عن النواب والمسؤولين!
في زيارته الثانية يوم الثلاثاء إلى بعبدا، بدت تصريحات ميقاتي متناقضة إلى حد بعيد، عندما قال إنه يملك ضمانات دولية وإقليمية، فهو لم يكن مطروحاً لتشكيل الحكومة ولو قبل أيام، فمن أين هبطت الضمانات، وكل ما قيل عن توافق فرنسي – أميركي معطوف على كلمة سر إقليمية، أدت إلى توافق بين القوى السياسية على تكليف الحريري، إنما يأتي في إطار التحليلات، خصوصاً عندما نتذكر العقدة الإيرانية التي من الواضح أنها تضع مسألة الفراغ الحكومي في لبنان، كرسالة ذات معنى من طهران إلى واشنطن على طاولة المفاوضات في فيينا!
لكن الغريب أن نستمع إلى ميقاتي يؤكد من بعبدا بعد لقائه عون، يوم الثلاثاء، أن لديه الضمانات الخارجية المطلوبة للخروج من الأزمة، قائلاً: «لو لم تكن هناك ضمانات وتطمينات خارجية محددة، لما أقدمت على خطوتي وأنا مطمئن»، ومن الواضح أن الضمانات للخروج من الأزمة تأتي عملياً بعد تشكيل الحكومة والبدء ببرنامج إصلاحي جاد، وليس الآن للدخول في زواريب تشكيل الحكومات في لبنان والعبرة في التشكيل.
في هذا السياق، دعت جالينا بورتر، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية، يوم الأربعاء، إلى تشكيل حكومة فاعلة سريعاً تلتزم بإجراء إصلاحات أساسية، بينما قال جيمي كليفرلي، وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط وأفريقيا، إن الشعب اللبناني يحتاج إلى حكومة قادرة على تنفيذ الإصلاحات الموعودة منذ فترة طويلة ولا ينبغي لقادة لبنان أن يضيعوا المزيد من الوقت… فهل يمكن النظر مثلاً إلى هذه التصريحات على أنها ضمانات تسبق التشكيل أو تأتي بعد قيام حكومة تباشر الإصلاح؟
بالعودة إلى حديث ميقاتي عن أن لديه ضمانات وتطمينات خارجية لولاها لما أقدم، دعونا نكمل تصريحه عندما قال بالحرف: «ليست لديّ عصا سحرية ولا أستطيع فعل العجائب. إن المهمة صعبة لكننا سننجح إذا تضافرت جهودنا بدون مناكفات ومهاترات واتهامات متبادلة، ولقد أخذت على عاتقي بالتعاون مع الرئيس عون تشكيل الحكومة التي ستنفذ المبادرة الفرنسية».
والسؤال أولاً هل يريد «حزب الله» مثلاً تنفيذ هذه المبادرة؟ وهل يقبل بها «التيار الوطني الحر»، عندما يعلن مباشرة بعد المشاورات مع ميقاتي، أنه لن يدخل في الحكومة؟ ولعل العقدة الأساس والأصعب هنا عندما تنشر الصحف أن عون أبلغ مَن يهمهم الأمر «إنني لن أعطي نجيب ميقاتي ما لم أعطه لسعد الحريري»، هذا في وقت نقل عن ميقاتي قوله «إن التفويض الذي أُعطي لي من نادي رؤساء الحكومات السابقين مرتبط بعدم التنازل عن السقف الذي وضعه سعد الحريري»، إذاً ما معنى الحديث عن ضمانات دولية وإقليمية، إذا كانت العقدة ما زالت كامنة في عناصر التشكيل التي دارت بين عون والحريري؟
مع تكليف ميقاتي بتشكيل الحكومة، تم تسريب رواية تعبق برائحة بعبدا وموقف عون، ومفادها أن الخلاف مع الحريري لم يكن حول بنود المسار وشروط عون، بل على مسألة «التحقيق الجنائي» في نهب الدولة اللبنانية، وأن الحريري كان يتمسك بالتمهل فيه رغم إصرار عون على المباشرة به، وأن اتصالاً جرى قبل أيام بين عون وميقاتي، قال فيه عون إن لديه شرطاً واحداً وهو الالتزام بالتحقيق الجنائي، وهو مستعد أن يعطي ميقاتي ما لم يعطه للحريري فوافق ميقاتي!
يبدو هذا التسريب غريباً جداً، على الأقل لأن حرب الاتهامات بين عون والحريري تجاوزت كل حدود الإساءات، وكان سهلاً ومؤذياً أكثر أن يقول عون للبنانيين إن الحريري يرفض «التحقيق الجنائي» في سرقة أموالكم وأموال الدولة، وهو الذي وصل إلى درجة اتهامه بالكذب، ولكن هذا لم يحصل… غريب!
في أي حال عندما طُرح اسم ميقاتي لرئاسة الحكومة قال التيار العوني عنه إنه مرشح الأميركان والمنظومة الفاسدة، وإن عليه شبهة الإثراء غير المشروع والشعب لن يقبل بشخص لديه هذه الارتكابات، وكانت النيابة الاستئنافية في جبل لبنان برئاسة القاضية غادة عون قد ادعت في 23 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2019، على ميقاتي وابنه ماهر وشقيقه طه وبنك عودة بتهمة الإثراء غير المشروع، عن طريق حصولهم على قروض سكنية بالملايين، وهو ما نفاه مستشار ميقاتي في ذلك الوقت!
عون يقول إن ميقاتي يجيد تدوير الزوايا، ربما بمعنى الرهان على أنه قد يقبل بما لم يقبل به الحريري، وميقاتي يدرك ضمناً رغم الحملات القاسية عليه من جماعة التيار العوني أنه بالتالي لا يستطيع أن يقبل بأقل مما طلبه الحريري، إلا إذا وافق على أن يكون «بروتوس» الذي طعن زملاءه في الظهر!