الرئيسية / مقالات رأي / لبنان والمسارات المتعثرة

لبنان والمسارات المتعثرة

بقلم: محمد خليفة – صحيفة “الخليج”


الشرق اليوم – يعيش لبنان جرحاً نازفاً منذ عقود، وإن اندمل هذا الجرح أحياناً فإنه ما يلبث أن ينزف نزفاً حاراً، وها هو اليوم يعيش أوج المأساة؛ حيث يواجه المشاكل والتحديات التي لا تهدد حاضره فقط؛ بل تجعل مستقبله كذلك على المحك. خاصة عندما تتجاذب أطراف دولية وإقليمية خيوط القوى السياسية الرئيسية، مما يهدد أمن المجتمع وثوابته.
ولعل ما يزيد من هول هذه المخاطر والتحديات أنها تأتي في حقبة زمنية صعبة مملوءة بالفتن والفرقة والانقسامات الداخلية. ما يثير التساؤل عن سبب هذه الأوضاع التي يعانيها لبنان؟ وما دور القوى السياسية في هذه الحالة الضبابية التي آلت إليها أوضاعه؟ أحياناً تكون العودة إلى التاريخ – العودة إلى الماضي- هي أقصر الطرق لاستقراء المستقبل، ولا يمكن لأمة أن تغفل عن تاريخها أو تحاول تجاهله.
إن صياغة خطاب لمستقبل الأمة يستدعي إعادة النظر في تاريخ الأمة على المستوى السياسي، من أجل تصويب البوصلة نحو مستقبل واعد لهذه الأمة نحو وعيها الحضاريّ.
إن البشر، في كل جيل، هم الذين يصنعون التاريخ، ويكتبون صفحاته، فمنذ أكثر من ألفي عام قبل الميلاد كان الفينيقيون في صور وصيدا يعبرون بسفنهم البحر الأبيض المتوسط، وينشئون مستعمرات تجارية، ويشيّدون مدناً عظيمة بها، فالساحل الإفريقي والشمالي بأكمله كان يقع تحت سيطرتهم وإدارتهم، وأسسوا فيه مدناً خالدة كمدينة قرطاج العظيمة في تونس؛ بل إنهم عبروا مضيق جبل طارق وواصلوا سيرهم وسيرتهم حتى جنوب بريطانيا، وأنشأوا لهم مستعمرة تجارية في «كورن ول»، كما كانت سفنهم تنقل عروض التجارة بين مدن المملكة الواقعة على شواطئ البحر المتوسط. إضافة إلى ذلك فقد نقلوا إلى شعوب تلك المناطق حروف الهجاء والأرقام الحسابية، ومن المتعارف عليه أن الحروف اللاتينية أصلها فينيقي كنعاني نقلها الفينيقيون إلى الشعوب القديمة كأول لبنة في سلم الحضارة. وهكذا قدم الفينيقيون للعالم حضارة، لا يزال شعاعها ممتداً حتى اللحظة، ويكفي أنهم علّموا سكان العالم كيف يكتبون ويقرأون.
أليس الذين يتناحرون ويتنازعون اليوم أحفاد أولئك الرجال الغابرين؟! كيف يصل بهم الحال لأن يجعلوا بلادهم اليوم تقف على شفا جرف بسبب عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، ما أدّى إلى غلاء المعيشة، وما تبع ذلك من آثار اقتصادية واجتماعية سيّئة، جعلت الأبواب مفتوحة أمام العديد من المخاطر التي قد تنذر بكارثة لا تُحمد عقباها، فالصراع الطائفي عاد يُطلّ من جديد، بصورة لم نعهدها من قبل على هذا النحو في العقدين الأخيرين. وكل النذر تشي بأن هذا الجنون الطائفي قد يفلت من عقاله ويفتك بالجميع.
لذا ينبغي أن يدرك المعتدلون، فضلاً عن أصحاب التوجهات المدنية الانفتاحية الليبرالية، أولئك الذين حاربوا هذه التوجهات التعصبية الطائفية والكيانات الانغلاقية. وغني عن القول إنّ مناخ لبنان يُعد، في جانب مهم منه، انعكاساً لبيئته السياسية على الصعيدين الداخلي والخارجي. فالقوى الاقتصادية مرهونة بدرجة كبيرة بالخيارات السياسية للدول، وينظر إلى الاقتصاد السياسي، وكأنه تداخل لعمل الأسواق مع مجموعة من القوى السياسية الفاعلة. ولكن حين التأمل في هذه الظاهرة المعقدة والمركبة نجد أن جوهرها العميق سياسي. ومن هنا، فإن تفكيك هذه الآفة الخطرة وإنهاء موجباتها وأسبابها المباشرة وغير المباشرة، يقتضي العمل على تنقية الوضع الراهن، وبناء العلاقة بين أهل الوطن الواحد، ومنظومة الحقوق، والواجبات على قاعدة المواطنة الجامعة؛ بحيث لا يكون الاختلاف الديني والسياسي والمذهبي سبباً لحرمان المواطن اللبناني من حقوقه الطبيعية والأساسية، كما لا يكون الانتماء الديني والسياسي والمذهبي هو الدافع لمنحه امتيازات تتجاوز حقوقه الطبيعية.
وهذا يتطلب من جميع السياسيين في لبنان العمل من أجل سيادة القانون؛ بحيث يكون التعامل مع جميع أبناء لبنان، بصرف النظر عن انتماءاتهم ومذاهبهم وأصولهم، على حد سواء؛ والعمل على بناء منظومة قانونية متكاملة تكون هي مرجعية للجميع، وتضمن حق الجميع، مع التأكيد بأنه لا يمكن تحميل حكومات الدولة اللبنانية وحدها مسؤولية هذه التركة الثقيلة، فهي صناعة احتباس قديم وطويل تم تجاهله وأحياناً استغلاله، إلا أنه في ذات الوقت ما لم ينطوِ مشروع هذه الحكومات الجديدة على فهم عميق لهذه الظاهرة، والعمل على علاجها وتقدير الدوافع والاستعداد لمسار التحول بعين مفتوحة تضع مصلحة لبنان في ثنايا مضامين إنسانية، تتجاوز التباينات التاريخية والفروق المذهبية لمصلحة نسيج اجتماعي سياسي واحد قائم على المعايشة والتواصل والمحبة.

شاهد أيضاً

أوكرانيا

العربية- عبدالمنعم سعيد الشرق اليوم– فى العادة فإن الاستدلال عن سياسات إدارة جديدة يأتى من …