بقلم: مختار الدبابي – العرب اللندنية
الشرق اليوم – الناس صفّقوا لما قام به قيس سعيد لأن المنظومة التي ظلت حركة النهضة الإسلامية محورها منذ 2011، فشلت في تحقيق مكاسب لهم. بدت هذه المنظومة وكأن هدفها الأول هو خلق صراع سياسي مستمر وحامٍ بعيدا عن مشاغل الناس وهمومهم، حتى أنها في قلب معركة تونس مع الوباء كانت تتصارع لأجل مسائل سياسية مثل استكمال المحكمة الدستورية أو التحضير لتغيير القانون الانتخابي.
الناس ينظرون إلى ما قام به قيس سعيد من تجميد للبرلمان وحل لحكومة عاجزة عن إنجاد الناس بأجهزة الأوكسجين في عز الوباء على أنه حركة خلاص من نظام حكم فوضوي لم يفض سوى إلى إغراق البلاد في الديون والفساد والفوضى الإدارية.
لم يكن يعني الآلاف من الشباب، الذين تظاهروا الأحد ومهدوا لقرارات قيس سعيد، توصيف ما جرى بأنه انقلاب أو حركة تصحيحية من داخل الدستور، أو تعطيل له. كانوا وهم يتظاهرون ينظرون إلى سجل عشر سنوات من الفشل والعجز عن إنجاد الناس وتحسين حياتهم، وأكثر من ذلك تركهم يواجهون لوحدهم غلاء المعيشة والزيادات التي لا تتوقف في الأسعار.
قيس سعيد، وأيا كانت مشروعية تأويله الدستوري للفصل 80، فقد كسب بتجميد البرلمان تعاطفا واسعا، لأن الناس ملّت من طبقة سياسية تتصارع على التلفزيون لأجل أجندات إقليمية، وتقود حملات انتخابية مبكرة، وتغرق في مناقشة قوانين باردة لا علاقة لها بالأزمات الحارقة.
كان يفترض أن يتجنّد البرلمان في الأشهر الأخيرة لمعركة توفير اللقاحات، وأن يكون، وهو البرلمان المنتخب، صوت الناس في الضغط على الحكومة للتحرك في مختلف الاتجاهات من أجل تأمين حياتهم وإنقاذ أرواحهم. لكن لا شيء من ذلك قد حصل، بل شاهد التونسيون عروضا للمسرح والسيرك على خشبة البرلمان.
وستحتاج البلاد في كل الفرضيات القائمة مستقبلا إلى انتخابات مبكرة تنسي الناس قرف هذا البرلمان الذي جعل الناس تكره الديمقراطية والثورة. وإذا عاد البرلمان إلى نشاطه فسيكون بمهمة وحيدة هي التهيئة لتغيير النظام السياسي والقانون الانتخابي.
والأمر نفسه بالنسبة إلى حكومة هشام المشيشي التي كانت أغلب خططها هي الوقوف بوجه قيس سعيد والإغراق في معركة الصلاحيات، مع أن مجالات تحركها كانت تسمح لها بمواجهة الفساد بدل التغطية عليه وخدمته. كما كان يمكنها أن تركز على الإصلاحات الاقتصادية التي هي التحدي الأكبر أمام البلاد، لكن لا شيء من ذلك قد حصل.
كان قيس سعيد مخلصا ومنقذا بالنسبة إلى أجيال جديدة من التونسيين ليست معنية بالصراعات القديمة، ولا يهمّها من الإسلاميين كما اليساريين والقوميين سوى ما يقدمونه من خدمات لتحسين أوضاع الناس، لكن هذا لم يحصل خلال مراحل حكم التوافق سواء بين الإسلاميين والدستوريين خلال حكم الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ولا في تحالف الإسلاميين مع يسار الوسط والقوميين في حكومة إلياس الفخفاخ.
بالتأكيد، فإن أكبر الخاسرين من قرارات الرئيس سعيد هو حركة النهضة التي يجري تحميلها لوحدها فشل تجربة عشر سنوات من حكم ما بعد الثورة، وهذا منطقي لأنها كانت الواجهة السياسية لكل الحكومات السابقة، وهي مهندسة التوافقات ومغذية الصراعات على رأس السلطة التنفيذية مثل الصراع بين قائد السبسي ورئيس الحكومة الذي اختاره بنفسه يوسف الشاهد، والصراع بين قيس سعيد والمشيشي.
وكان واضحا أن “الأصدقاء القدامى” الذين عملوا مع النهضة واستفادوا من التوافق قد أعلن أغلبهم انحيازه لقرارات قيس سعيد سواء بالتصريح أو الصمت، من ذلك حزب تحيا تونس الذي يرأسه يوسف الشاهد، الذي حمّل النهضة وحكومة المشيشي مسؤولية تردي الأوضاع الصحية والاجتماعية والسياسية التي مهدت لقرارات الرئيس سعيد، والأمر نفسه بالنسبة إلى قلب تونس الذي يلوّح في تصريحاته بدعم تلك القرارات مقابل ترتيب مشاركته في التسوية الجديدة.
وفيما أخذ الجميع بعض الوقت لفهم التغييرات الجديدة ودراسة التعامل معها، فإن حزب النهضة وقيادييه خرجوا من اللحظة الأولى للحديث في الإعلام عن ضرورة مواجهة الانقلاب ليصطدموا بواقع مرير، أنهم يتحركون لوحدهم، وأن أصدقاءهم قفزوا من المركب. كما أن رهانهم على “أصدقاء” الخارج سقط في الماء بعد تصريحات أميركية وأوروبية تبدي تفهّما لموقف قيس سعيد بسبب متابعة مسبقة لوضع تونس وقلق من فوضى البرلمان وعجز البلاد عن مواجهة الوباء وإجراء الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة دوليا.
كل الأوراق تجمّعت بيد سعيد، والآن ستكون الأنظار المحلية والخارجية مسلّطة عليه، وكذلك رهان الشعب الذي تظاهر بالآلاف لدعمه. ماذا بعد التصريحات والاتصالات واللقاءات الهادفة إلى الطمأنة؟
الوقت محدد، وعلى قيس سعيد أن يغادر مربع القرارات الجزئية مثل إقالة وزراء أو مسؤولين في الحكومة، وأن يعلن عن نواياه بشأن المرحلة المقبلة حتى لا يفقد المبادرة وتتوزع بين دوائر كان لها ضلع في الأزمة التي تعيشها البلاد.
لماذا يتأخر الإعلان عن اسم رئيس الحكومة الجديد؟ وهل سيعتمد الرئيس سعيد على خارطة طريق واضحة أم أنه سيلجأ إلى مسار الحوار الوطني مثلما جرى في 2013، ويعيد البلاد إلى مربع التوافق السياسي حول مرحلة انتقالية وحكومة انتقالية والتركيز على تغيير النظام السياسي وتهيئة الأوضاع لانتخابات مبكرة، وهو توجه يجري الحديث عنه بزعم أن قيس سعيد يحتاج في المرحلة القادمة إلى شركاء وداعمين لتأمين الانتقال السياسي.
الدخول في نفق الحوار الوطني قد يوفر لقيس سعيد ضمانات وقد يخدمه كرجل حوار وشراكة سياسية، لكنه يهدد بخسارة رهانات الشارع الذي تظاهر لأجله، خاصة أن مسارا مثل هذا سينتهي إلى “توافق ما” وسيغلب البعد السياسي في حل الأزمات، وهو توجه يجد سندا في الخارج، وهو ما يعني أنه سيأخذ وقتا أطول.
الوقوف بقرارات الرئيس سعيد في نصف الطريق سيصدم الناس، وخاصة الالتجاء مجددا إلى التوافق أيا كانت مبرراته وظروفه والواقفين وراءه.
لا معنى لتوافق لا يضع أولوية لحل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية ويقدم حلولا عاجلة للخروج من أزمة الوباء، والناس لن يصبروا أكثر، وليسوا مستعدين للوعود التي سمعوا منها الكثير منذ 2011.