بقلم: رياض قهوجي – النهار العربي
الشرق اليوم – تتوالى فصول أزمة سد النهضة بين إثيوبيا، من جهة، ومصر والسودان، من جهة أخرى، نتيجة إصرار أديس أبابا على المضي قدماً بالمرحلة الثانية لملئه، متجاهلة دعوات من القاهرة والخرطوم وجهات دولية عدة من أجل التوصل الى اتفاق ملزم يحدد تقسيم مياه النيل الأزرق، شريان الحياة لهذه الدول الثلاث. ولقد تحدث العديد من المسؤولين في الخرطوم والقاهرة، ومن بينهم الرئيس عبد الفتاح السيسي، عن أهمية التوصل إلى اتفاق، محذرين من استمرار تغاضي أديس أبابا عن ذلك، ومنبهين إلى أن كل الخيارات متاحة للتعامل مع الأمر. السؤال الذي يشغل معظم الناس هو: هل ستلجأ مصر والسودان إلى الخيار العسكري لوقف مشروع السد الذي بدأت آثاره تظهر مع تدني منسوب مياه النيل التي تصل إلى البلدين؟ وإن كان الخيار العسكري وارداً، فمتى؟
من الواضح أن المقاربة المصرية – السودانية قائمة على استنزاف الخيارات الدبلوماسية إلى أقصى الحدود. فكلاهما ينشط على المسارات الدولية كافة، من مجلس الأمن إلى الاتحاد الأفريقي، ولا يزالان يشاركان في اجتماعات ومؤتمرات تحضرها إثيوبيا من أجل التوصل إلى حل. لكن حتى الآن لم تغيّر إثيوبيا من موقفها. يبدو أن الحرب الأهلية التي تشهدها مقاطعة تيغراي المحاذية للحدود الإريترية تلقي بظلالها على قرارات أديس أبابا في ما يخص سد النهضة. فالحكومة الإثيوبية تتعرض لضغوط دولية كبيرة نتيجة اتهامات لجنودها بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية في تيغراي. كما أن الحكومة تواجه صعوبات اقتصادية كبيرة نتيجة الحرب وفيروس كورونا وتراجع الدعم الدولي لها. لذلك، تحاول استخدام موضوع سد النهضة كوسيلة لإثارة المشاعر الوطنية وصرف الأنظار داخلياً وعالمياً عن الحرب الأهلية المستعرة في أراضيها. ويرى بعض المحللين أن الحكومة الإثيوبية ربما تحاول ابتزاز المجتمع الدولي والدول المجاورة لدعمها مالياً واقتصادياً مقابل حلحلة الأزمة.
لكن الوضع يأخذ حالياً منحى تصعيدياً، مع مضي إثيوبياً بالمرحلة الثانية لملء السد، وقد تجد القاهرة نفسها أمام خيار تحاول تجنبه بكل الوسائل، أي الحرب. فمصر تشهد نهضة اقتصادية كبيرة ومهمة جداً، وباتت وجهة للعديد من الاستثمارات الدولية، وكل من يزور مصر يستشعر ذلك. كما أن مصر استعادت مكانتها كلاعب إقليمي رئيسي بعد غياب نتيجة الحوادث الداخلية التي مرت بها مطلع العقد الماضي. وتحاول أن تركز اليوم على تعزيز النمو الاقتصادي ورفع مستوى الأمن الإنساني عبر مشاريع وتشريعات عدة. وهي تستمر بعملياتها الأمنية ضد الإرهاب في بعض الجيوب المتبقية في سيناء وعلى حدودها مع ليبيا. وبالتالي، آخر ما تريده مصر اليوم هو أن تجد نفسها في حرب. وكذلك الأمر بالنسبة الى السودان التي شهدت حديثاً رفع العقوبات الدولية عنها وإعفاءها من معظم ديونها الخارجية، ما سيمكّن الحكومة من إنعاش الأوضاع الاقتصادية واستقطاب الاستثمارات الخارجية من أجل تحسين الأوضاع المعيشية في البلاد، ما سيساهم بتعزيز الاستقرار الداخلي. لكن انخفاض منسوب مياه النيل إلى مستويات كبيرة سيؤثر على الأمن الغذائي والمائي والاقتصادي لكل من مصر والسودان، ما سيضطرهما للجوء إلى الخيار الأخير.
الجهة الأقوى عسكرياً هي عادة التي تمسك في ظروف كهذه بقرار الحرب، وفي هذه الحال مصر هي مركز القرار. من غير المنصف لإثيوبيا أن تكون هناك مقارنة للقدرات العسكرية للبلدين. فمصر تملك أحد أكبر جيوش العالم، بحيث يبلغ عديد قواتها المسلحة العاملة 438000 جندي، ويمكن أن يرتفع العدد بسرعة الى مليون مع إضافة الاحتياط، هذا فيما لا يتجاوز عدد قوات المسلحة الإثيوبية 135000 جندي، وقد يرتفع الى 300000 مع الاحتياط (هذا قبل الحرب الأهلية الحالية والتي أدت لانقسام الجيش). أما من ناحية التسليح، وتحديداً في القوات الجوية التي لها الدور الأساسي في حسم الحروب الحديثة، فإن سلاح الجو المصري يملك حالياً في الخدمة الفعلية 425 طائرة حربية متنوعة، تضم أحدث الطائرات، مثل مقاتلات رافال وميراج-2000 الفرنسية ومقاتلات ميغ-29 وسوخوي-35 الروسية وطائرات أف-16 الأميركية، ونحو 91 طائرة هليكوبتر هجومية مثل أباتشي الأميركية وكاموف-52 الروسية، وأسطولاً كبيراً من طائرات من دون طيار، ومنها الهجومية مثل وينغ لونغ ورينبو الصينية الصنع. أما سلاح الجو الإثيوبي فهو يضم 30 طائرة حربية فقط: 10 طراز ميغ-23 و20 طراز سوخوي-27 الروسية الصنع. ويملك 8 طائرات هليكوبتر هجومية فقط طراز مي-24 الروسية الصنع. ويملك الجيش المصري في الخدمة الفعلية 3550 دبابة، معظمها من الطرازات المتقدمة مثل ام-1أ2 وامي-60 الأميركية وتي-90 وتي-80 الروسية. هذا فيما لا يتجاوز عدد الدبابات الإثيوبية 400 من طرازات روسية قديمة مثل تي-72 وتي-62.
هذه المقارنة البسيطة تعطي فكرة عن الفارق الكبير في موازين القوى بين مصر وإثيوبيا، فكيف لو أضيفت السودان إلى المعادلة وتتضمن 90 طائرة حربية و43 طائرة هليكوبتر هجومية وقوات مسلحة من 110000 جندي، يضاف اليهم 90000 احتياطاً و465 دبابة. لا حاجة لعرض أكبر يشمل العربات المصفحة وبطاريات المدفعية والصواريخ لدى الأطراف الثلاثة، كون الصورة باتت واضحة عن الفرق الشاسع في الميزان العسكري بين إثيوبيا وكل من مصر والسودان. وهناك خيارات محددة للعمل العسكري، فهي إما ستستهدف غارات جوية لضرب السد بهدف تعطيله وإخراجه من الخدمة، أو بهدف تدميره كلياً. لكن خيار التدمير دونه خطر حدوث فيضان كبير يخلف أضراراً جسيمة ويهدد جزءاً مهماً من الأراضي السودانية. الخيار العسكري الثالث هو بعملية عسكرية لاحتلال السد، وهو احتمال قائم كون موقع السد قريباً من الحدود السودانية، وبالتالي لن تكون مهمة صعبة على جيشي مصر السودان لتحقيقه. وتهدف عملية الاحتلال لفرض شروط على إثيوبيا تلزمها التوقيع على الاتفاق القانوني لتقاسم مياه النيل. فإبقاء الاحتلال لفترة طويلة دونه مشكلات مع المجتمع الدولي، وتعريض حياة الجنود لحرب عصابات واستنزاف للاقتصاد. لكن الخيار العسكري الآن مجمد ولا يبدو مطروحاً بانتظار استهلاك الخيارات الدبلوماسية كافة، وثبوت تدني مستويات منسوب النيل الأزرق إلى حد خطير يهدد الأمن القومي، ما يبرر حق مصر والسودان في الدفاع عن النفس.