بقلم: عبد الحسين شعبان – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – يقول مثل صيني قديم «ليس مهماً أن يكون القط أسود أو أبيض ما دام يصطاد الفئران». تذكّرتُ ذلك وأنا أتابع خطاب الرئيس الصيني شي جين بينغ في الأول من يوليو/ تموز الجاري الذي يتحدث عن «نهضة الصين التي لا عودة عنها» بمناسبة احتفاليّة مرور 100 عام على تأسيس الحزب الشيوعي الصيني. ولا يعني ذلك سوى ترجمة لرغبة الصين في صعودها إلى منصّات القيادة العالمية. وهي نظرة مختلفة عما كانت تروّج له الصين من أنها «دولة ناميّة» وليست «قوة عظمى» منذ بدء إصلاحاتها في عهد الرئيس دينغ شياو بينغ، والتي استمرت حتى العام 2012.
وإذا كانت الصين قد تعلّمت الاستفادة من الغرب وتجاربه منذ أواخر السبعينات وانتهاء بالثورة الثقافية 1965-1976 ووفاة الزعيم ماوتسي تونغ، فإنها ظلّت خلال أربعة عقود ونيّف منصرمة، محكومة بعنصرين أساسييّن، هما «حكمة الصين» وحضارتها وفلسفاتها التاريخية ممثّلة بالكونفوشوسية والتاوية، والفلسفة الماركسية – الشيوعيّة برمزّيتها الصينية، مع عنصر جديد هو محاولة إضفاء نزعة إنسانيّة عليها والتخفيف من عبء الماضي.
وقطعت الصين شوطاً بعيداً في تبنيّ مفهوم «اقتصاد السوق» أو حسبما يُطلق عليه البعض «شيوعية السوق» وكل همّها هو «التخلّص من الفئران»، فلم تعد «الإمبريالية نمراً من ورق»، فالغرب مستودع للحداثة، لا تريد منافسته فحسب، بل مشاركته في التقدّم العالمي بنديّة وكبرياء.
فهل تخلّت الصين عن اشتراكيتها واختارت السير في طريق واحد مع الرأسمالية؟ أم ثمة وسائل جديدة وأساليب عمل مختلفة عن السابق، وطريق غير مطروق سعت لاتباعه. ولعل ذلك ما أوقع الكثيرين في حيرة من أمرهم.
حين ندقق في التجربة الصينية للتنمية المستدامة، نرى أن جوهرها يكمن في «روح الصين» المبثوثة في كل مكان، وهي تمثّل الامتداد التاريخي الذي حاولت الزعامة الصينية تجديده وانبعاثه كجزء من الخصوصية الثقافية الصينية.
وعلى الرغم من انغماس القيادة الصينية لسنوات في الشيوعيّة الراديكاليّة ذات النزعة الشعبوية، إلا أن هناك ما كان يجرّها باستمرار نحو تراثها الحضاري. وليس عبثاً أن يقول الرئيس شي جين بينغ، إن من يحاول الوقوف ضد تقدّم الصين سيصطدم بسور من الفولاذ، وهي استعادة مقصودة لسور الصين العظيم، ولكن لبشر من لحم ودم قوامهم مليار و400 مليون إنسان.
إن مصادر القوة الأساسيّة للنهضة الصينية مُهنْدَسة وفقاً للفلسفة والحكمة القديمة والقائمة على العلم والتكنولوجيا والاقتصاد، متشابكة مع استمرار الدور المركزي للحزب وهيمنته على المفاصل الأساسيّة، فضلاً عن انضباط صارم لتوجّهات الدولة، وهي نسخة جديدة من الشيوعية ذات العلامة الصينية التي جمعت بين البعد التاريخي القومي وشكل جديد من رأسمالية الدولة أو شيوعية السوق، وذلك في إطار حيوية نشطة وإدارة رشيدة لتأمين الريادة عالمياً، لاسيّما في عصر العولمة.
وقد وُضعت اللبنَات الأولى لذلك بالانفتاح نحو اقتصاد السوق والتحديث وإجراء إصلاحات وتراكم وتقليص معدلات الفقر، بحيث انتشلت فيه الصين أكثر من 770 مليون إنسان من الفقر، دون تهميش دور الحزب، رائد مسيرة الألف ميل، والمقاوم للاحتلال الياباني، وقائد ثورة العام 1949، مع تفعيل الديناميكية الاقتصادية بتوجيه منه باعتباره قوة دافعة وموّجهة للطموح الاستراتيجي.
قررت الصين اختيار الطريق الثاني لحجز موقعها الاستراتيجي في سُلم التقدّم العالمي، وليس عبثاً أن التقديرات العالمية المعتمدة تشير إلى أنها في العام 2030 ستتصدر الاقتصاد العالمي، وهي اليوم منافس كبير للولايات المتحدة التي تحاول الضغط عليها بوسائل سياسيّة واقتصادية وغيرها، بل إنها شددت من العقوبات عليها، وخصوصاً في عهد الرئيس دونالد ترامب، وحتى في عهد الرئيس جو بايدن فإن العلاقات ظلّت على فتورها ولم تتحلحل.
لقد تطوّرت الصين بقفزات هائلة من خلال الانفتاح الاقتصادي، وتوسيع القاعدة الاجتماعية التي انتقلت من الوسط الزراعي إلى الوسط الصناعي، وتعزيز دور الطبقة الوسطى، على الرغم من أن الحاجة تبقى راهنة بشأن حرّية التعبير واحترام حقوق الإنسان وإقرار التعددية والتنوّع والاعتراف بحقوق المجاميع الثقافية، سواء الدينية أو الإثنية أو اللغوية.
فحتى الآن لم تتخلَّ القيادة الصينية عن فلسفتها التي تستند إلى مفهوم يعتبر الحريات الفردية جزءاً لا يتجزأ من تحرّر المجتمع والحرّيات الجماعية بالضد من الأطروحة الليبرالية التي تعتمد على الحرّية الفردية، كجزء من مقتضيات النسق الاجتماعي.
ما زال الحبر الصينيّ يكتب حتى الآن بريشة الحكمة القديمة المُغمّسة بالماركسية ذات النكهة الصينية الخاصة المنتِجة لعقول صناعية دقيقة ذات رمز جديد للتنين الصيني في نهضته.