بقلم: مصطفي الفقي – المصري اليوم
الشرق اليوم – تتحدد درجة نجاح دبلوماسية أي دولة بما تستطيع أن تفتحه من قنوات تواصل مع الدول المختلفة والقوى المتعددة، وأتذكر أنني قلت ذات يوم إن رئيس أي دولة يفاخر عندما تستطيع طائرته الهبوط في أي مطار بالعالم بلا استثناء، وفي ظني أن الرئيس المصري الحالي عبدالفتاح السيسي يستطيع ذلك، إذ يمكنه الهبوط في طهران لأنه لم يسب الإيرانيين، وأن يهبط في أنقرة لأنه لم يتطاول على العثمانيين الجدد رغم أخطائهم في حق مصر في السنوات الأخيرة، كما يستطيع أن يهبط أيضًا في مطار الدوحة مرحبًا به.
بل أضيف إلى ذلك أنه يمكنه أن يلقى استقبالًا يليق به في أديس أبابا عاصمة سد النهضة، لأن الرئيس المصري المحترم يتحدث دائمًا عن سد النهضة بتأكيد حق الأشقاء الإثيوبيين في التنمية مع احترام الحقوق التاريخية للشعب المصري في حصته من مياه النيل، ولذلك فإنني أشيد بالدبلوماسية المصرية التي يتولى وضع خطوطها العريضة الرئيس السيسي، ويقوم على تنفيذها دبلوماسي قدير متوازن للغاية هو السفير سامح شكري، وزير الخارجية، ولابد أن أشيد هنا بقدرة مصر على الانفتاح على أشقائها العرب بغير استثناء تقريبًا وأشقائها الأفارقة دون تمييز.
كما أنها تحتفظ بعلاقات مستقرة وندية مع واشنطن وموسكو وبكين، فضلًا عن دور الاتحاد الأوروبي، وفي مقدمتها فرنسا، مع تواصلٍ منتظم مع بريطانيا وعلاقات وثيقة مع اليونان وقبرص، بالإضافة إلى تعاون تقني مع اليابان، وصلات طيبة مع الهند وباكستان وحتى دول أمريكا اللاتينية التي تبعد عنا كثيرًا تبدو أحيانًا قريبة منا بشكلٍ يدعو إلى الرضا، ولقد تعلمنا من أزمة سد النهضة عددًا من الحقائق أسجل منها اثنتين:
أولًا: إن حدود الدبلوماسية المصرية لا تقف أمام حدثٍ واحد، ولكنها تتحرك في حيوية في إطار مجالاتٍ متعددة، فمصر دولة محترمة في المنظمات الدولية على تعددها وكثرتها، وهي أيضًا دولة ترفع مبادئ تتسق مع سياستها بالابتعاد عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول حتى لو كانت صديقة أو شقيقة، فالأمن القومي المصري والمصالح العليا للبلاد هي التي تستأثر بالخطوط الحمراء في تحركنا الدبلوماسي والعسكري أيضًا، وقد علمتنا دروس أزمة سد النهضة أن كل من لم يساند موقفنا ليس بالضرورة عدوًا لنا ولكن لكل دولة حسابات المصلحة والموازنة بين المكسب والخسارة في مواقفها تجاه أزمة مياه النهر، وهي بالمناسبة أزمة تعاني منها بعض أحواض الأنهار في مناطق مختلفة من العالم، والدول المختلفة بدأت تبحث في العقود الأخيرة عن عمليات تحلية مياه البحر كبديل تعويضي ولو إلى حدود معينة عما يمكن أن تفقده في صراعات القرن الحادي والعشرين، قرن المياه، مثلما كان القرن العشرون هو قرن أزمات الطاقة، وفي مقدمتها النفط.
ثانيًا: لقد كتبت شخصيًا كثيرًا من المقالات حول موضوعي التحالفات الناقصة والسرعات المتفاوتة، إذ يمكن أن نجد دولًا كثيرة تتفق معنا في بعض الأمور وتختلف معنا في بعضها الآخر، وقد تكون تلك الدول حليفة بالمعنى الحديث للكلمة، وهو المعنى الذي يدور حول مفهوم الحلف الناقص، فليس من الضروري أن تكون وجهات النظر متطابقة ولا حتى متقاربة، ولكن يكفي فقط ألا تكون متعارضة، أقول ذلك بمناسبة الدهشة التي أصابت كثيرًا من المصريين للموقف الروسي أثناء نظر مسألة سد النهضة في مجلس الأمن، وأنا أظن أن موقف موسكو ليس عدائيًا تجاه القاهرة.
ولكنه متعاطف مع إثيوبيا بسبب المصالح المشتركة والدور الذي يمكن أن تلعبه أديس أبابا لخدمة سياسات موسكو في شرق إفريقيا، فالمصالح هي لغة العصر ومرونة الحركة في الانتقال من توجه إلى آخر تعني أيضًا القدرة على تحقيق أكبر قدرٍ من المصالح لكل دولة وفقًا لأولوياتها، أما عن السرعات المتعددة فهي أن ما يمكن أن توافق عليه دولة ما اليوم يمكن أن تبتعد عنه أيضًا غدًا، لأن السياسات تعبر عن المصالح والتي هي بدورها تحتاج إلى قدرٍ كبير من الحركة المفتوحة وحيوية الانتقال دون خسائر من اتجاه إلى آخر.
إن من حقنا أن نفاخر بذلك التنسيق الذكي بين الدبلوماسية السياسية والدبلوماسية العسكرية في بلادنا، والارتباط الواعي بين ميلاد القواعد العسكرية المصرية الجديدة في جانب، وحركة الدبلوماسية النشطة في جانب آخر، ويجب أن ندرك أن الدبلوماسية الخشنة ذات الطابع العسكري هي الرصيد الذي تقف عليه الدبلوماسية الناعمة ذات الطابع السياسي، وفي الحدود الواقعة بينهما تتحرك السياسة الخارجية للدولة معتمدة على ما تملك من مقومات وما لديها من أرصدة مع اتساع مجال الحركة أمامها دون قيودٍ أو محاذير!