بقلم: محمد الرميحي – النهار العربي
الشرق اليوم – كانت البداية مبهرة تنبئ بظهور إمبراطورية من طراز جديد، هذا كان الانطباع لدى أغلب المراقبين، وحتى الأميركيين، عند اندلاع ثورة تشرين الأول “أكتوبر” الاشتراكية وما تلاها من إعلان عن ظهور النمط الجديد من تآخي القوميات وتشاركها في بناء دولة عظمى. وذلك الانطباع ساد الشرق الأوسط وربما العالم بعد ثورة الشعب الإيراني ضد اضطهاد شاه إيران عام 1979.
إنه عصر جديد سوف تعاد فيه الحريات للناس، وبالتالي التحق بالمشروع السوفياتي كثير من الدول والقوى السياسية، وكذلك بالأفكار والرؤى التي جلبتها معها الثورة الإيرانية. بعد ستين سنة “سوفياتية”، ومع اعترافات آخر الرؤساء السوفيات ميخائيل غورباتشوف بالأخطاء التي ارتكبت في العهد الستاليني، عهد الرعب، وما قبله، بدأت العجلة بالتباطؤ ثم توقفت بعد البروسترويكا التي تبناها غورباتشوف، وتفككت الإمبراطورية بعد نحو سبعة عقود من إعلانها.
كذلك في إيران، ربما ينظر المؤرخون إلى انتفاضة الأحواز التي بدأت الأسبوع الماضي وتوسعت إلى مناطق أخرى، على أنها بداية التباطؤ للثورة الإيرانية، وقد تأخذ أقل من سبعة عقود لتتوقف، إنها وحدة المأساة وفداحتها على الشعوب، أيديولوجية نظرية تتسم بالضبابية والبعد عن قراءة واقع المجتمعات ومتطلبات العصر، تفرض نفسها على واقع اجتماعي \ اقتصادي له شروطه المختلفة. التشابه يكاد يكون، في الخطوط العريضة، متطابقاً. قبل عقود من سقوط الاتحاد السوفياتي كما عرفه العالم، بدأت كتابات تنبئ به، لعل كاتب هذه السطور كان من أصحابها، فبعد زيارة في وسط الثمانينات للاتحاد السوفياتي ممتدة لفترة، عدت لكتابة افتتاحية في مجلة “العربي” ذكرت فيها أن (الاتحاد السوفياتي عملاق بأرجل من خشب). كان ذلك مجمل انطباعي عن تلك الزيارة، وأيضاً نتيجة قناعة بأن الدول لا تستطيع أن تبقى وهي في مكان ما متميزة وفي مكان آخر عاجزة، تفسير العبارة الأخيرة ذكره أحد المؤرخين الروس قبل السقوط بعقود، فقد لاحظ أن دولته ترسل مركبات إلى الفضاء وتصنع صواريخ عابرة للقارات وتخزّن أكبر ترسانة نووية، ولكن فلاحيها في الغالب ما زالوا يحصدون الغلة في مزارعهم بأيديهم.
هذه المقارنة تذهب مباشرة إلى النظام الإيراني الحالي، حيث يصنع الصواريخ ويسيّر الطائرات الدورن ويخصّب اليورانيوم، والناس تتظاهر، رغم كل القهر والعنف واستخدام القوة ضدها، من أجل شربة ماء لا غير، عدا متطلبات الحياة الأخرى من كهرباء وأدوية ولقاحات إبان انتشار وباء يحصد عشرات الآلاف من الأرواح. أما المقارنة الثانية التي تستحق أن يتوقف عندها، فهي الموقف من الأقليات في الدولة، لقد بدأت رياح التفكك في الإمبراطورية السوفياتية بمطالب الأقليات المنضوية تحت جناح الإمبراطورية بالاستقلال الذاتي وإدارة الموارد المحلية، ليتبين بعد حين أن تلك القوميات في بلدانها تنتج من خيراتها ولا تستفيد منها مع إدارة مركزية عمياء لديها نظام توزيع مُعوق، حتى في الأساسيات التي يحتاجها الإنسان، فلم تعد الأيدولوجيا تطعم خبزاً. هذا ما يحدث اليوم في إيران، فمنطقة الأحواز هي الأكثر وفراً في الموارد، وبخاصة النفط، ويعمل في حقول النفط فيها أقل من نسبة قليلة من المحليين، وفي معظمهم عمال لا إدارة، كما تحوّل مصادر المياه عندهم إلى أماكن أخرى، فيموت الزرع والأرض والماشية ويهلك الإنسان، ما جعل تلك التظاهرات تندلع كما بدأت بالضبط في الاتحاد السوفياتي قبل عقود.
المقارنة الثالثة هي في استجابة النظام لتلك التحركات التي تنبع من شعور حقيقي بالحرمان، فقد جاءت اعترافات نيكيتا خروتشوف حول إدانة القمع الستاليني ومن ثم إصلاحات غورباتشوف المرتبكة لتنم عن خواء في النظرية وعللها في التطبيق. فاضطرار علي خامنئي، مرشد الثورة والرجل الأكثر نفوذاً على كل السلطات في إيران، للقول بأحقية المنتفضين في الأحواز بالتعبير عن معاناتهم، والاعتراف بأن ذلك نتيجة فشل سياسات حكومية سابقة، هذا الاعتراف من قمة الهرم والسلطة القابضة بعد الكثير من الإنكار لتحركات سابقة، يعني أن المنحى في التباطؤ قد بدأ. لعل الفرق الأهم بين التجربتين أن الاتحاد السوفياتي وجد من مواطنيه بعض المقاومة، وفي الغالب على مستوى فردي، واستجاب لذلك بالقمع المفرط وتعقّب المخالفين (الذين سمّاهم منشقين) في أصقاع الأرض، إلا أن المقاومة للنظام الإيراني من مواطنيه جماعية، فتشكل المقاومة الإيرانية اليوم جماعات واسعة منتشرة في العالم، ومنظمة ولها برامج سياسية ومعضدة من قوى وشخصيات سياسية وحتى حكومات، برامج تلك الجماعات تدعو إلى الحرية والتعددية والخروج من مأزق حكم الفقيه، ولها مناصرون في الداخل عادة يسميهم النظام (المنافقون) في محاولة لشيطنتهم، هذه الشريحة تتوسع مع الوقت، وقد جاءت (مذبحة التصفيات) الأخيرة في اختيار من يرشح في الانتخابات الرئاسية ومن يمنع لتمس رجال (عظمة الرقبة) في النظام، ما يترك إشارة واضحة الى من يريد أن يقرأ أن النظام يعزل نفسه، ولا يرضى حتى بالاختلاف الطفيف، وتلك علامة من علامات الخوف السياسي والاستحواذ الكامل. كل تلك التراكمات، إن أضفنا إليها حجم البطالة وانتشار الفساد الذي يعترف بوجوده كل المسؤولين علناً، وحجم القبضة الأمنية وتدهور العملة الوطنية، كلها عوامل تقود أي متابع إلى توقع أن مرحلة التوقف لم تعد بعيدة مهما حاول المكابرون نكرانها، إنها قوانين الاجتماع الإنساني التي تفعل فعلها بصرف النظر عن رغبة الأفراد أو تمنياتهم.