بقلم: لارا نبهان – موقع العربية
الشرق اليوم– رعب يسكننا يومياً، قريبين كنا إلى الوطن، أو بعيدين. في كل واحد فينا موتٌ، بعد هذا اليوم.
أما الموت الكبير، الذي جاء يومها وحصد مئتين وأربعة أرواح، فذاك وجع ثقيل جداً نحمله معنا أينما ذهبنا في أصقاع الأرض، وما أكثر الذاهبين منا.
ماذا أتذكر اليوم، بعد عام تقريباً على هذا التفجير؟
في ذاكرتي، تعود الصورة والأصوات والرائحة ويغيب الطعم.
صوت زجاج الشبابيك المنفجرة تحت قدمي، أول يوم وكل يوم بعد الانفجار، أول ما يحضرني الآن.
صوت مزعج، يتكرر مع كل خطوة وكأنه تذكير مستمر بأنك في موقع المأساة.
ترحيب مرّ بكل من يدخل مناطق الانفجار: أهلاً بكم في الجميزة، شارع ذي طابع أثري. شُطبت الصفة الأثرية عن الشارع بعد الانفجار وكُتب “شارع ذو طابع مقاوِم”.
تبتعد قليلا عن هذا الصوت، تذهب باتجاه المرفأ، دخلنا موقع التفجير. وصلنا للحفرة التي أحدثها الانفجار. رائحة قوية تحضرني. أمطرت الدنيا ليلاً فوق القمح المندثر يتيماً بعد أن انفجرت أهراءاته. انبعثت رائحة عفن، بشعة ومؤلمة حتى النخاع.
وصفها أحدهم بجانبي: “هكذا هي رائحة الموت”.
تبحث عيناك عن طير في السماء، أو ربما عن حشرة في الأرض، لا تجد شيئاً. سُلبت الحياة من هذا الموقع كلياً. لا مكان للكائنات هنا. الموت سيد المرفأ.
تبتعد قليلاً. تعود بين الناس. تنظر إلى الوجوه. فراغ قاتل تحمله الأعين. هي الصدمة، ولكن هي أكثر من ذلك. هي الظلمة المطلقة في عز نهار وصيف لبنان الجميل.
يوقظك من الصدمة كل دقيقتين صوت سيارات الإسعاف.
“تنقل الشهداء” يقولون لي. أو “الـ 6 آلاف جريح” ربما!
تغلق أذنيك لأنك تريد لهذا الصوت أن يتوقف. ولكن بأي حق توقف الصوت والبحث عن أشلاء الشهداء جار؟
توقفت الساعات لحظة الانفجار. إنها الساعة السادسة و8 دقائق مساء دوماً، نفس الوقت طول الوقت.
هل توقّف العالم حين توقّف الوقت؟ لا. نحن فقط توقفنا. بعضنا فقط ماتوا. الحياة خارج هذا الكابوس عادية جداً.
تأتي ساعات الليل فتجلس لتفكر. من أنا لأبقى حية فيما نساء أخريات، أمهاتٌ، يمزقن الآن صدورهنّ وقلوبهنّ وثيابهنّ على فلذة أكبادهنّ؟ إنه الذنب يتآكلك. نجوت من الانفجار ولكنها ليست ساعة احتفال بالحياة.
تترك البلد. تصعد الطائرة وتقول ربما حين أبتعد أهدأ. يستقل الذنب نفس الطائرة معك. يجلس بكل المقاعد حولك ويرافقك مع كل نغمة موسيقى تسمعها هذا العام، ومع كل ضحكة تخرج منك عن قصد أو غير قصد في جلسة بعيدة جداً عن مكان الانفجار.
كيف أضحك وأنا أرى أماً تقول: “دفنت ابني أشلاء! قطعا صغيرة! قالوا لي إنها تعود لابني لكنني لا أدري”.
تقول في هذه اللحظة ستأتي العدالة حتماً. سيشق كل مسؤول في البلد ثيابه ويعلن: “لن يمر يوم والمذنبون خارج القضبان”.
تمرّ أيام وأشهر، وبدل شقّ الثياب، تُغسل الأيدي. لم يزر منهم أحد موقع التفجير، التحقيق مستمر. لكن مع من؟
بعض الذكريات يختار الإنسان أن ينساها، أو بالأحرى يدفنها عميقاً كي لا تطارده. فهي تحمل الكثير من الألم والخوف واليأس.
أما انفجار المرفأ فهو الذكرى التي لا يمكن دفنها. أشلاؤها غير مدفونة أصلا، غير معثور عليها حتى.
رغم كل وجعها، والرعب الذي تحمله واليأس الذي تفجره، هي الذكرى الباقية كل لحظة.
لو غمرها الركام، ولو غطتها الأمطار ونبت فوقها العشب والقمح.. لا تُنسى! أرادوا لنا أن ننسى، ولن ننسى لا بعد عام ولا بعد أعوام العمر كلّه!