بقلم: حسن إسميك – النهار العربي
الشرق اليوم – تملك كل ثقافة حول العالم أساطيرها الخاصة في تفسير البدايات الأولى للخلق، فمنذ أن امتلك الإنسان وعيه إلى جانب تطور قدراته العقلية، حاول جاهداً أن يبحث عن السبب الكامن لوجوده، لذا شكلت هذه الأساطير في فترات مبكرة من عمر البشرية الإطار المرجعي لطريقة تفكيره بمحيطه، وعلاقته به. وعلى الرغم من الامتداد الجغرافي الفاصل بين مختلف الجماعات الإنسانية المتواجدة على هذه الأرض، اشتركت تلك القصص في بعض العناصر الأساسية ذاتها، فكانت الثنائية بدايةَ كلّ شيء، ثنائيةٌ مكونة من ذكر وأنثى على اختلاف الرمزية في كل حضارة أو ثقافة أو جماعة.
تبدأ الكثير من هذه القصص بفكرة الولادة التي تمثّل انبجاس الحياة الجديدة وخروجها من رحم الظلام إلى النور، وترتبط فكرة الولادة هذه ارتباطاً راسخاً بالمفهوم العام للأم (الأنثى) والأب (الذكر). وعلى الرغم من دحضها للكثير من الخرافات المتوارثة، فإن النصوص في الديانات الإبراهيمية (اليهودية، المسيحية، الإسلام) جاءت داعمة ومؤكدة لهذه الثنائية المباركة، وجاعلةً لهذه الرابطة أبعاداً مقدسة. إذن، لم يكن هناك فرد فقط، بل كان هناك دائماً اثنان يشتركان في إعطاء البذرة الأساسية لكل شيء في الحياة.
تطورت هذه الرابطة الأزلية والجامعة ما بين الذكور والإناث عبر الزمن، على اختلاف الأسباب والدوافع لها، لتندرج لاحقاً تحت ما يُسمى بـ “الزواج” أو “القران” كخطوة أولى في طريق الاستقرار عندما انتقل الإنسان من حياة الصيد إلى حياة الزراعة. ويعتقد المؤرخون أن الزواج كمصطلح عقائدي وعملي قد نشأ في الفترة من 1.8 مليون إلى 23 ألف سنة، ولكن بطرق مختلفة عما هو متعارف عليه في يومنا هذا. في حين تشير الدلائل التاريخية إلى أنّ مؤسسة الزواج كهيكل تنظيمي للمجتمع والدولة، قد انطلقت قبل 4350 عاماً، حيث سُجّل أول زواج عرفه التاريخ بين امرأة ورجل في بلاد الرافدين حوالي عام 2350 قبل الميلاد، لينتشر هذا المفهوم لدى شعوب أخرى كالرومان والعرب وغيرهم.
وهكذا، يبدو أنّ السؤال الملّح الذي ينقرّ مسامع الشباب والشابات في كل اجتماع عائلي موسّع: (متى نفرح لك؟)، يعدّ من الأسئلة العتيقة التي رافقت هذه الفئة خلال كل الأزمنة، وذلك بحكم قدم الحاجة الماسة لهذه الرابطة. بيد أنّ السؤال الأهم الذي لا مناص منه في وقتنا الحالي، هو: (متى صار هذا السؤال شبحاً يهرب من وجهه الجميع، تاركين الإجابة عنه في مهبّ الريح؟). كل الظنّ أنّ الالتزامات المقترنة بالزواج والخاضعة للثوابت والمعايير التي أوجدها المجتمع وما زال متشبثاً بها، والتي لا تخضع لإرادة طرفي المعادلة، هي السبب.
إن الأسئلة التي تحوم حول الزواج تنشأ من فهم المتغيرات التي يتعرض لها دور الزواج في كل عصر، ففي الماضي لم تواجه البنية الجوهرية للزواج، من تأسيس للعائلة وحماية الأولاد والنساء والميراث على حدّ سواء، أي مشاكل تذكر، بل على العكس كانت الظروف المحيطة به داعمة له ومشددة عليه. في حين برزت نقاط الضعف في هذه المؤسسة في أوائل العصر الحديث، بسبب نشوء النزاع ما بين الأشكال الجديدة والحداثية لفهم المجتمع البشري وما بين الصورة التقليدية للزواج المتوارث عبر العصور. حيث شهد العصر الجديد موجة من الأفكار التي تدور في فلك الحريات الشخصية والحقوق المتساوية والواجبات دون تفريق، ناهيك عن الانفتاح الاقتصادي الحرّ الذي لعب دوراً مهماً في الاعتراف بزواج يتم بناؤه على علاقة اختيار حرة وشخصية، عوضاً عن التقاليد التي لزمت العديد من العائلات في زيجاتهم سابقاً. في الحقيقة، تعرض مفهوم الزواج للهجوم والعدائية، بوصفه قيداً يحدّ من الحريات الفردية التي تنادي بها المجتمعات الحديثة، ما جعل الكفة تميل بشكل واضح لصالح العزوبة، هرباً من الالتزامات والمسؤوليات طويلة الأمد.
على جانب ذلك، ساهمت الأفكار الحداثية التي أطلقها المفكرون الغربيون منذ سبعينيات القرن الماضي، وما تلاها من تغيرات اقتصادية في المشهد العالمي، إضافةً للسعي الدؤوب لتمكين دور المرأة الفعلي في الحياة العملية بعد ازدهار الأفكار النسوية في تلك المجتمعات، ساهم ذلك إلى حد ما في تفكك المؤسسات الاجتماعية التقليدية، بما فيها مؤسسة الزواج، لصالح الانعزالية المفرطة والتوحد وثقافة الاستهلاك العالية. لاحقاً، استطاعت المجتمعات الغربية الخروج من مأزقها والتأقلم مع هذا التطور والمضي قدماً به، وذلك من خلال إعادة صياغة تعريفها للزواج وأدواره التي لا تتنافى مع معتقدات العصر الحديث، ناهيك عن سنّها للكثير من القوانين التي ضمّت أشكالاً عديدة من الشراكات المقبولة بين المرأة والرجل لديهم.
وتبعاً للعولمة وثورة التكنولوجيا المنتشرة حول العالم، انتقلت هذه الأفكار بشكل واسع إلى الوطن العربي الذي لا يعيش أحسن أيامه على كافة الأصعدة، وتأتي الحالة الاقتصادية المتردية في رأس قائمة أزماته، لتجعل من “مؤسسة الزواج” مضماراً رحباً للصراع ما بين القديم الموروث والحديث العصري لدى الشباب العربي. حيث تعاني أغلب مجتمعاتنا اليوم من مشكلة عزوف الشباب عن الدخول إلى “القفص الذهبي”، كما يحلو لكثيرين تسميته، فبعد أن كانت الفترة الممتدة ما بين البلوغ والزواج لدى الفتيان والفتيات لا تتجاوز بضع سنوات، أصبحت تمتد لعقد أو عقدين، وأحياناً أخرى يكون مصير هذه الفترة الامتداد إلى ما لا نهاية، فالزواج لم يعد من أولويات الشباب، وما عاد الفستان الأبيض حلم أغلب الفتيات، الأمر الذي أدّى إلى التهديد المباشر لاستمرارية هذه المؤسسة بصورتها السليمة – وهي العائلة.
ليس انتشار تلك الأفكار الحداثية أو انتعاش الحركات النسوية، وتنامي صيحات تحديد النسل للعائلة الواحدة من قبل الحكومات قبل الأفراد، هي السبب الرئيس لعزوف الشباب عن الزواج في الوطن العربي، بل يأتي قبل هذه وتلك الوضع الاقتصادي والمعيشي المتردي الذي تعانيه بلداننا والذي يتجلى بتناقص فرص العمل المناسبة، وصعوبة تأمين المسكن والمستلزمات اليومية، وسعي الغالبية العظمى إلى السفر خارجاً. كل تلك الأسباب، المادية منها والنفسية، أسهمت في تقويض وانهيار فكرة الارتباط المقدس الذي كان في البدء أول كل شيء وأساسه.
ولأنني ربّ لأسرة، أدرك أن الصورة التقليدية للعائلة (أم، أب، أطفال) ضرورة حتمية لدوام الوجود على هذا الكوكب واستقرار الحياة الاجتماعية فيه، إذ تعدّ الناقل الحقيقي لكل التقاليد والأعراف والثقافات بين الأجيال المتلاحقة التي تؤثّر وتتأثّر بكل ما يحيطها، بل وتتعدى وظائف الأسرة العربية الاقتصادية والاجتماعية والتربوية في العصر الحديث إلى أبعد من ذلك، لتصل إلى الحارس الرسمي للهوية العربية التي تعاني من التشوه في يومنا هذا. فالخلاصة النهائية تكمن في فحوى الرسائل التي يحملها كل فرد منا اتجاه الحياة، ويقع على عاتقه تمريرها إلى الأجيال القادمة، وأرى أن العائلة هي الركيزة الأساسية لتمرير أسمى المعاني الإنسانية، وهي التضحية في سبيل الآخرين من أجل تحقيق التنظيم المجتمعي الذي تنشده كل الدول. والحفاظ على “العائلة العربية” مسؤولية رئيسية يجب على حكوماتنا أن تتنبه لها وتبذل الجهود الكافية في سبيل حمايتها وبقائها.
قالت لي جدتي مرة: المرأة والرجل حكاية أبدية تتكرر كل ثانية، نسمعها ولا نملّ منها فنظلّ نتلهّف ليكررها فقط محبو الحياة، وإنني أجد في كلامها البسيط هذا عبرة تشبه إلى حدّ كبير ما قاله الفيلسوف (برتراند رسل): «الخوف من الحب والارتباط هو خوف من الحياة، وأولئك الذين يخشون الحياة هم بالفعل ميتون». إذ لا تبرز تفاصيل الحياة إلا عندما نتشارك في كل شيء، حتى الرقص المنفرد لا تظهر جماليته الحقيقة، دون تصفيق الآخرين له، والإثابة عليه.