بقلم: صدقة يحيى فاضل – صحيفة “عكاظ”
الشرق اليوم – أهم ما يميز العلاقات الدولية، كما هو معروف، حتى الآن، هو سيادة عنصر «الفوضى» (Anarchy) في معظمها.. أي: عدم وجود جهة عليا (أو سلطة حاكمة) تتولى عملية التوزيع السلطوي للقيم في مجتمع الدول، تعترف لها الدول بهذا الحق. أو بمعنى آخر، عدم وجود حكومة عالمية (متفق عليها، ومعترف لها بالحق في الحكم) تضع القوانين، وتشرف على تنفيذها، والعمل على إلزام الدول بها، ثم المقاضاة بشأنها، ومعاقبة من يخالفها. ونتيجة لسيادة هذا العنصر في العلاقات بين الدول، أصبح قانون: القول الفصل لصاحب الإمكانات الأكبر والأقوى (قانون الغاب) هو السائد.. حيث نجد أن القوي من الدول غالباً ما يستطيع فرض إرادته على الأضعف، عند تناقض واختلاف مصالح الطرفين.
هذا، إضافة لـ«سمات» كبرى أخرى.. تتميز بها العلاقات الدولية، ومن أهمها: كون العلاقات في ما بين أي دول تتأرجح دائما بين ظاهرتين متناقضتين هما: التعاون والصراع (الدوليين). ويضيف البعض إلى هذه السمات الكبرى كون العلاقات الدولية الحالية تحكمها القوة والمصالح.. إذ لا توجد فيما بين الدول صداقات دائمة، أو عداوات دائمة، بل توجد مصالح دائمة، وإن كانت المصالح قابلة للتغيير. فصديق اليوم قد يصبح عدو الغد، وعدو اليوم قد يمسي صديق الغد. وهكذا.
وعلم العلاقات الدولية يختص بدراسة هذه العلاقات، دراسة علمية.. هدفها: فهم ظاهرة العلاقات الدولية، ومن ثم محاولة امتلاك القدرة العلمية على التأثير (الإيجابي والسلبي) في هذه العلاقات، بما يخدم في النهاية أغراض المعنيين. ويقول علماء العلاقات الدولية إن هدف علمهم يجب أن يكون: العمل على استتباب الأمن والسلام في العالم، والحيلولة دون نشوب الصراعات والحروب الدولية. فهم يسعون لتحقيق هذا الهدف السامي، عبر: دعم التعاون الدولي، لأقصى حد ممكن، وتقليص الصراعات الدولية لأقل حد ممكن.
ودعم التعاون الدولي يعني دعم «أشكاله»، التي تحددت في أربعة أشكال قانونية – سياسية، وهي: المنظمات الدولية بأنواعها، الوحدة الاندماجية، الاتحاد الفيدرالي، عقد اتفاقيات التعاون بأنواعها. إضافة إلى الشكل الرابع المتخيل (أو المأمول) ألا وهو «الحكومة العالمية» الواحدة.
وكثيرا ما نسمع ونقرأ عن ما يشار إليه بـ«الحكومة العالمية الخفية» ( Invisible Government).. التي تعني: وجود سلطة سرية عليا خفية، ذات قوة خارقة، ونفوذ هائل، تهيمن على العالم، أو على أكبر أطرافه، وتسيره في الوجهة التي تريد، دون أن تستطيع أي قوة أن تقف في وجه جبروتها، وإرادتها. هذه الحكومة يعتقد أنها تسيطر على معظم مقاليد الأمور الكبرى على وجه الكرة الأرضية. فلا ينعقد أمر مهم إلا إن كانت وراء حدوثه، أو باركته. ولا يمكن أن يحدث في العالم أي تطور لا ترغبه، أو أنه ضد ما تعتبره «مصالحها»، وتوجهاتها ورغباتها…؟! وهذا المصطلح يختلف جذريا عن مصطلح «الحكومة العالمية» (World Government) المأمولة، والمتخيلة، كشكل (ممكن) من أشكال التعاون الدولي، موضوع حديثنا هنا.
والواقع أن «الحكومة الخفية» ليست دائما حكومة، وإنما يستخدم هذا المصطلح مجازا، وللتعبير عن سطوة هذه القوة التي تتجاوز قوتها قوة الحكومات، وتهيمن على أغلب حكومات القوى الدولية الكبرى – كما يعتقد. وأبرز ما تتميز به هذه القوة هو سرية وغموض تحركاتها المريبة. ويبدو أن هذه السلطة (الخفية) متوحدة، وإن وجدت لها عدة أذرع، وتمارس نفوذها من خلف الستار كمنظومة متكاملة واحدة. ويقال إن هذه القوة يهيمن أفرادها (فرادى ومجتمعين) على أهم بيوت المال والبورصات في العالم، وكذلك البنوك الكبرى والإعلام والثقافة في دول العالم الكبرى.
وبما أن من أهم «أسباب» الصراع الدولي هو انقسام العالم إلى عدة دول، لكل منها مصالحها المادية والمعنوية الخاصة بها، ولكل منها سيادتها، فإن ذلك يؤدي (تلقائيا) لاشتعال الصراعات والحروب الدولية المدمرة، بسبب اختلاف وتنافر مصالح هذه الدول. ولا حل لهذه الإشكالية، ولتفادي الصراعات والحروب الدولية، إلا: بإقامة دولة عالمية واحدة، تحكمها حكومة عالمية واحدة، كما يدعو أنصار هذا الشكل التعاوني، شبه المستحيل.
ويدعو أنصار الحكومة العالمية إلى أخذ الدولة العالمية المنشودة بالنظام الفيدرالي، مستشهدين بنجاح الفيدرالية في حكم دول واسعة الأرجاء، لتبرير دعوتهم هذه. ويرد منتقدوهم بأن إقامة دولة عالمية واحدة هي فكرة «يوتوبية» (خيالية) لا يمكن أن تتحقق في أرض الواقع، بسبب وجود هذا العدد الكبير من الدول المختلفة المصالح، وتمسك كل منها بسيادتها. ويرون أن نجاح الفيدرالية على المستويات الإقليمية لا يعني نجاحها على المستوى العالمي. فالروابط في ما بين الدول المتجاورة تسهل تعاون هذه الدول الوثيق. عكس المستوى الدولي العالمي.. حيث تتعدد الدول التي لا ترتبط ببعضها بروابط وطيدة، ولا تتشابه مصالحها مع بعضها البعض.
كما يرى المنتقدون أن أمورا كثيرة، تخص الدول، لا يمكن إدارتها عالميا، كالأمن المحلي، وقضايا التشريع، وغيرهما. فلم تنجح منظمة الأمم المتحدة كثيرا في منع الصراعات والحروب الدولية، بسبب تناقض مصالح دول العالم، ورفضها التنازل ولو عن جزء من سيادتها. لذلك، ما زال هذا الشكل التعاوني عبارة عن فكرة، لا يبدو أن بالإمكان تحققها على أرض الواقع الدولي الفعلي، في المدى المنظور.
وما زال كثير من علماء العلاقات الدولية يرون أن إقامة الحكومة العالمية الواحدة هو السبيل الأوحد لتلافي الصراعات والحروب الدولية الكارثية، خاصة في عصر أسلحة الدمار الشامل. وطالما افتقد العالم لهذه الحكومة، فستستمر الصراعات والحروب المدمرة. وإن كان الأمر كذلك، يبدو أنه قدر للعلاقات الدولية أن تتضمن الصراعات الدولية، طالما ظل ما يمنع هذه الصراعات مستحيلا، أو صعب المنال.