بقلم: جميل مطر – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – كثيراً ما راودني سؤال لم يكن في معظم المرات بريئاً، سألت ومازلت أسأل: هل نحن الآن أمام ألمانيا أوروبية أم أوروبا ألمانية. بمعنى آخر: هل خرجنا من تجربة الزعماء الألمان ما بعد الحرب وأولهم كونراد أديناور وآخرهم أنجيلا ميركل، وقد اكتست بقيم وطباع وتطلعات ومفاهيم «أوروبية»، أم خرجنا بأوروبا وقد تلونت بألوان وخصال ألمانية، حتى بدت لنا الآن مثل ثمرة مكتملة لجهود وتجارب وتطلعات ألمانية.
لا فضل كبير لألمانيا على ميلاد مشروع الوحدة الأوروبية. الفضل الأكبر يعود لتفكير فرنسي أسس لنظرية الوحدة وصاغها، أذكر تحديداً فضل جان مونيه. ولد المشروع بصفات جذابة وعلى الفور صارت له عند التطبيق كاريزما خارقة وشعبية كبيرة. ينهض المشروع على تضافر مكونات مهمة مثل التاريخ المؤلم والزاخر بحروب عديدة مدمرة، ومثل مراحل الاستعمار والتنافس بين قواه على المستعمرات أو النفوذ الخارجي. ينهض أيضاً معتمداً على قيم مشتركة مطبقة حيناً، ومتغافل عنها في معظم الأحيان، منها القيم الحقوقية والديمقراطية واحترام الحريات الأساسية، كما ينهض على قيادة مشتركة ألمانية فرنسية أوحت برسالة تدعو إلى قيام سلم أوروبي طويل الأمد، ونهضة اقتصادية تدعمهما الولايات المتحدة.
لا يمكن إنكار أو التقليل من فضل أمريكا على نهضة ألمانيا، ولكن تستحق عناصر أخرى أن يُعترف بفضلها على تطور القوة الاقتصادية الألمانية ومن ثم قيادتها الفريدة في نوعها لأوروبا. أذكر من هذه العناصر وبترتيب جزافي، نوع القيادة السياسية في ألمانيا وتأثيره أيضاً على نشأة نخبة سياسية متميزة، نعترف الآن أنها دخلت منذ فترة، مرحلة كمون وربما انحدار، أو فلنقل تغير في الأولويات. من العناصر الأساسية أيضاً سقوط حائط برلين وتوحيد الشطرين الغربي والشرقي من ألمانيا. العنصر الأهم من وجهة نظري، والمثير في آن، أنه هو نفسه العنصر الأهم في المرحلة الأخيرة من نهضة الصين: هو العولمة. فبدون العولمة وحركة التجارة الحرة التي رافقتها ربما ما كانت ألمانيا والصين لتمكنا من تحقيق القفزة الاقتصادية الكبرى التي نقلتهما بسرعة إلى مكانة متقدمة.
كانت أنجيلا ميركل أول امرأة في تاريخ ألمانيا تتولى منصب المستشارية، وهو المنصب الذي قضت فيه ستة عشر عاماً. كانت أيضاً المستشار الأطول أمداً في هذا المنصب، أطول من أدولف هتلر الذي لم يقض أكثر من اثني عشر عاماً، نحو نصفها حروب. واجهت ميركل خلال حكمها أربع أزمات رئيسية هي الأزمة المالية العالمية في عامي 2008 و2009، والثانية أزمة المهاجرين السوريين في 2015، والثالثة أزمة البريكست في 2016، والرابعة أزمة كوفيد 19 المتواصلة والمستمرة منذ 2019، وجميعها أزمات حادة ومعقدة وكاشفة لقدرات القابض على عملية صنع القرار في برلين، والمهيمن على عمليات صنع القرار في بروكسل مقر المفوضية الأوروبية.
لفت نظري، ولا شك نظر آخرين عديدين، تعقيدات الأزمة المالية ومشكلات منطقة اليورو، والتيسيرات التي اقترحتها ميركل لتسوية أزمات اليونان وإسبانيا والبرتغال وغيرها، وهي التيسيرات التي كان لها أثر كبير في تشكيل الوعي الشعبي الألماني بالنسبة لدور ألمانيا في أوروبا والعلاقة بين دول الشمال الأوروبي وجنوبه.
لفت النظر أيضاً، الموقف الحازم والنادر حدوثه، لميركل، عندما سمحت باستقبال مليون مهاجر سوري و«شرق أوسطي». هذه الأزمة حطمت قيوداً وأطلقت تيارات وأشعلت من جديد مفهوم القومية الألمانية. وفي العام التالي تفجرت أزمة البريكست مثيرة شكوكاً قديمة قدم التاريخ الأوروبي حول نوايا بريطانيا العظمى تجاه دول القارة، ومهددة استقرار ولاءات دول شرق أوروبا تجاه بروكسل.
للشخصية الألمانية خصال خاصة أضفت على الألمان غموضاً من نوع فريد. نسمع كثيراً أن الألمان لن يقبلوا هذا الوضع أو ذاك، أو أنهم لن يرتضوا لأنفسهم سمعة السفه والتبذير في المعونات ومختلف أوجه الإنفاق الحكومي. لا غموض في الأمر، فالشعب الألماني حقق توافقاً عاماً خلال السنوات التي مرت على الحرب العالمية. التوافق الملزم حتى الآن لميركل، ومن جاء قبلها، وفي الغالب سيستمر ملزماً لمن يأتي بعدها من حزبها، أو من حزب الخضر، يركز على أمور ثلاثة جوهرية، أولها التمسك بسياسات ومبادئ التحالف الأطلسي، وثانيها عدم الخروج عن سياسات «الماكرو اقتصادية» التي سارت عليها ميركل وبخاصة على جوانبها المحافظة، وثالثها أن دوراً لألمانيا في أوروبا مؤكد ومضمون، ولا بد أن تتمسك به الحكومات الألمانية المختلفة.
هناك مصدر قلق يكمن في اطراد تقدم التيارات القومية في ألمانيا خاصة، وداخل الاتحاد الأوروبي. في الوقت نفسه تزداد مشاعر الاشمئزاز من كل دعوة لتمجيد العلم الألماني أو إثارة مفاهيم تشير من قريب أو بعيد إلى القومية الألمانية، ومن الحديث المتكرر في السنوات الأخيرة عن الوطنية الألمانية، ومن ربط السياسة الخارجية بمفاهيم المصلحة القومية.
لن تكون مهمة من يخلف ميركل سهلة. خذ مثلاً أنه للمرة الأولى ستعمل ألمانيا في الحقل الأوروبي بدون غطاء أمريكي، وحسب أحد المتخصصين، بدون الصخرة التي قامت مستندة إليها ألمانيا المعاصرة. أمريكا اختلفت بعد أن انحدرت. خذ مثلاً آخر. الصين لم تكن هناك عندما بدأت ألمانيا صعودها، الآن الصين صارت هاجساً أو وسواساً أو عملاقاً لا يمكن تجاهل وقع أقدامه في أوروبا، وفي غيرها من الساحات الدولية.
أتصور أن أنجيلا غير مطمئنة تماماً على مستقبل ما أفلحت في إرساء قواعده في ألمانيا.