الرئيسية / مقالات رأي / جذور الأزمة اللبنانية

جذور الأزمة اللبنانية

بقلم: د. يوسف مكي – صحيفة “الخليج”

الشرق اليوم – شهد لبنان في الأشهر الأخيرة صعوبات اقتصادية غير مسبوقة، عبّر عنها تهاوي سعر الليرة اللبنانية أمام الدولار الأمريكي بأكثر من عشرة أضعاف السعر الذي استقرت عليه قرابة عقدين من الزمن، والذي بلغ ألفاً وخمسمئة ليرة مقابل الدولار.

في الخميس الماضي وإثر إعلان سعد الحريري، المكلف بتشكيل الحكومة الجديدة، عن عجزه عن القيام بهذه المهمة وتوجيه اتهامات لرئيس الجمهورية الجنرال عون، بعدم التعاون معه في المهمة التي كلف بها، تجاوز سعر الليرة اللبنانية أكثر من عشرين ألفاً مقابل الدولار، وهو انهيار لم تبلغه الليرة حتى أثناء الحروب الأهلية التي عاناها لبنان، أكثر من مرة في تاريخه المعاصر.

يلاحظ في الأيام الأخيرة تحوّل دولي، وفرنسي بشكل خاص، تجاه الأزمة الاقتصادية الحادة التي يمر بها لبنان، ربما يؤدي إلى تقديم دعم مالي واقتصادي، بما يخفف من حدة هذه الأزمة، ويجلب بعض الراحة للشعب اللبناني، الذي تجاوزت معاناته كل الخطوط الحمر. لكن المعالجة في حقيقتها لن ترقى إلى معالجة الأزمة من جذورها.

فهذه الأزمة مركبة ومعقدة، وترتبط بتاريخ لبنان منذ اكتسب استقلاله، حيث تم تشكيل النظام على أساس طائفي، وقد ظل هذا التشكيل قائماً حتى يومنا هذا. وعلى الرغم من أن اتفاق الطائف 1989، قد أجرى بعض التعديلات على هيكلية النظام، فإن تلك التعديلات لم تمس الجوهر، وبقيت التركيبة الطائفية على ما هي عليه.

ساندت فرنسا ما عرف بالميثاق الوطني اللبناني غير المكتوب، الذي وزّع المواقع الرئيسية للحكم بين الطوائف. وبات التشكيل السياسي أمراً واقعاً يحظى برعاية الدول الكبرى، وبتوافقات إقليمية وعربية. وخلال السنوات التي أعقبت الاستقلال ساد قانون يحكم الأمن والاستقرار والنماء الاقتصادي في لبنان. خلاصة هذا القانون أن لبنان يكون بخير، طالما اتفقت جميع الأطراف الدولية والإقليمية والعربية على مساندته، وأن أي خلاف بين هذه القوى حول أوضاعه، من شأنه أن يؤدي بأمنه الاقتصادي والاجتماعي.

في الخمسينات والستينات، وحتى اندلاع الحرب الأهلية الثانية في منتصف السبعينات، حافظ لبنان باستثناء أحداث 1958 (أواخر عهد الرئيس كميل شمعون) على قدر معقول من الاستقرار؛ بل إن وضعه الاقتصادي يكاد يكون هو الأفضل بين البلدان المجاورة له.

لقد كان سعر الليرة في حينها قرابة نصف دولار، وكانت بيروت تمثل المركز المالي للشرق، بحيث تم توصيفها في الأدبيات السياسية بـ«جنيف الشرق»، يضاف إلى ذلك أنها كانت نقطة وصل للخطوط الجوية من الشرق إلى الغرب. وكانت خطوط الشرق الأوسط الجوية (الشركة اللبنانية) هي الأقوى بين نظيراتها من شركات الخطوط الجوية العربية.

ليس ذلك فحسب، فقد كان لبنان  إضافة إلى دوره الرئيسي في مجال المال والمصارف، والربط الجوي  قوة زراعية. وكان البلد مشهوراً بتصدير البرتقال والموز والتفاح إلى خارج لبنان. وإضافة إلى ذلك، كان بلداً يحسد على طبيعته الخلابة، بحيث تحوّل في ما بعد العقود الأولى للاستقلال إلى أهم بلد سياحي ضمن الأقطار العربية.

إذن، كان لبنان يمتلك أربعة عناصر تدعم اقتصاده: تمركز المصارف والمؤسسات المالية، ومحطة الربط الجوي بين الشرق والغرب، والزراعة والسياحة. وللأسف، فإن جميع هذه العناصر تبخّرت بشكل تدريجي منذ منتصف السبعينات. فالبنوك والمؤسسات المالية رحلت عن لبنان منذ الحرب الأهلية الثانية، واتجهت في معظمها نحو البلدان المعروفة بالنمور الآسيوية، ولاحقاً إلى بعض بلدان الخليج العربي. 

أما مطار بيروت فظل معطلاً لفترة طويلة، أعادت خلالها الخطوط الجوية تموضعها ومطاراتها الوسيطة إلى بلدان أخرى، تمركزت في العقدين الأخيرة في الخليج العربي.

ومع الانهيار الأمني انهارت السياحة بشكل يكاد يكون شاملاً. وكان المؤمل أن يؤدي انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية إلى إعادة الحياة إلى لبنان، لكن ما حدث هو أن لبنان  عند إعادة إعماره  قد جرى «تصحيره»، ولم يعد للشأن الزراعي ألقه وحضوره. باتت حضور الضيعات جزءاً من الفولكور والموروث اللبناني من غير حضور حقيقي يسهم في بناء لبنان، ومعالجة الاختناقات الاقتصادية التي يعانيها. والأنكى أن إعادة إعمار لبنان أسهمت في حدوث تضخم اقتصادي بدأ يتجه خطه البياني باستمرار إلى الأعلى.

بلد الأرز الجميل، بحاجة إلى دعم أشقائه، وإلى إسناد دولي لاقتصاده، يُعيد لأهله الأمل ويخفف عنهم عبء الضائقة الاقتصادية التي تمر بالبلاد، وضاعفت منها جائحة كورونا، لكن الأهم هو إعادة تأسيس لبنان ومراجعة هياكله ونُظمه، بما يعزز من إمكانياته الاقتصادية ويُعيد لأبنائه البهجة والتقدم والنماء.

شاهد أيضاً

أوكرانيا

العربية- عبدالمنعم سعيد الشرق اليوم– فى العادة فإن الاستدلال عن سياسات إدارة جديدة يأتى من …