بقلم: محمد المحمود – موقع الحرة
الشرق اليوم- تنتشر “نظريات المؤامرة” في المجتمعات التقليدية/ العامية، أو شبه التقليدية التي يطفو فيها خطاب العلم على السطح؛ بينما الخرافة راسخة في الأعماق. إن لم ينتصر العلم؛ انتصرت الخرافة؛ لأن الإنسان بطبيعته يبحث عن إجابات، عن تفسير للظواهر التي تنعكس على سطح وعيه مُحَمَّلة بكثير من الأسرار. وحين يكون الجهل سائدا وموثوقا، والعلم مَحَلَّ تَشكّك وارتياب، تتقدّم “الأوهامُ” لسدّ الفراغ، أي لتلبية الحاجة الفطرية للتفسير والتعليل. وهنا، تتداخل كثير من العوامل والمُحَفزات ـ الواعية واللاّواعية، الفردية والجمعانية ـ للاستثمار في هذه “الأوهام” الرائجة في أوساط جماهير المُغفّلين.
إذن، وبناء على هذا، تكثر وتتنوع الحالات التي تروج فيها “نظريات المؤامرة”؛ لتلبية الاحتياج الأولي، ثم لتوفير المجال لاستثماره، ولعل من أشهر هذه الحالات ما يلي:
1ـ الانغلاق. فأوهام المؤامرة تروج في المجتمعات المنغلقة ذهنيا، المجتمعات التي تتبنى ثقافة تقليدية تضع بينها وبين الآخرين حواجزَ حقيقية/ طبيعية أو نفسية؛ فيكون هؤلاء الآخرون عالما مجهولا، ومن ثَمَّ؛ عالما مخوفا/ مخيفا. ولأن هذه المجتمعات المغلقة التقليدية تنطوي في ذاتها على حِسٍّ عدائي ضد الآخر، فهي، ومن باب: “إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه” تتوهم أن الآخرين ـ بالضرورة ـ يُعادُونها، بل وتتوهّم أنهم يتحرّقون عداءً لها؛ بحيث لا يهدأ لهم بال، ولا يطرق لهم جفن؛ حتى تنجح “مؤامراتهم” في تدميرها وإذلالها.
2ـ توهّم أهمية الذات؛ كتعويض عن الإحساس الحاد بتفاهة الذات، أي بالنقص/ بالهامشية؛ مقابل تفوّق الآخرين. مِن الطبيعي أن الأمم/ الدول القوية لا تتآمر إلا على قوي، على من يستطيع إلحاق الأذى بها. ولهذا فإن المجتمعات التي تشعر شعورا حادا/ مرضيا بضعفها وبهامشيتها في هذا العالم، تهرب من هذا الشعور المؤلم بتوهم أنها ذات قيمة/ أهمية، وأن أهميتها تكمن في قوّة خاصة (غيبية/ روحية/ مستقبلية…)، قوة تنبّأ بها العدو، فأصابه الرعب منها، إلى درجة أنه أخذ يتآمر عليها ليل نهار، فلا شغل له إلا هي؛ لأنه لو غفل عنها ستنتفض وتصحو من رُقَادها الكهفي، وستؤسس ـ حينئذٍ ـ حضارةً عظمى تجتاح العالم. وطبعا، هذه النوعية من الأوهام التعويضية رائجة بوضوح في أدبيات الإسلاميين، وكثير من القوميين العرب.
3ـ ادعاء الذكاء، أو ما أسمّيه: تذاكي الأغبياء، أو سلوك الغبي المتذاكي. ويكثر هؤلاء في المجتمعات التقليدية التي يتفشى فيها الجهل، وتضعف فيها لغة العلم. والمراد هنا أن “المتذاكي الغبي” يُريد الهروب من لازم صفة الغباء عن طريق الإيحاء بأنه يعرف ما لا يعرفه الآخرون، وأنه يرى ما وراء الظواهر، وأنه خبير بما خلف الكواليس (مع أنه لا يستند على شيء، لا معلومة ولا مصدر). فمثلا، إذا احتدم الصراع بين باكستان والهند، وهو صراع طبيعي وله حيثياته في الواقع، فقد يعمد “الغبي المتذاكي” (في محاولة لنفي صفة الغباء التي يستشعرها حقيقة، أو يشعر أن الآخرين يرونه من خلالها) إلى نفي أن يكون هذا الصراع طبيعيا، ويدّعي (دونما أي سند معرفي) أن هذا الصراع مفتعل بالاتفاق بين الدولتين؛ لتوريط الصين في…إلخ نسيج الأوهام.
هكذا، يقول لسان حال “الغبي المتذاكي”: إنني أرى ما لا ترون، وأصل إلى ما لا تستطيعون الوصول إليه، أنتم مخدوعون بظواهر الأمور، بينما أنا ـ بذكاء استثنائي يخترق حُجبَ الغيب ! ـ لم أنخدع بكل هذه المسرحيات المفتعلة. وكي يُمعن في تأكيد “ذكائه”؛ نجده يُمعن في نسج الأوهام، ويقوم بتشعيبها، وربط عناصرها المتباعدة بما يكفل لها “وجاهة التحليل” !
4ـ التحريض. فقد يكون صاحب “أوهام المؤامرة” ليس غبيا، وليس منغلقا، ولا يُقلقه الشعور القومي بالنقص، وإنما يستخدم هذا النسيج من الأوهام كتحريض ضد عدو ما، عدو داخلي أو خارجي. فمثلا، قد يكره العربيُّ دولة إسرائيل، ويريد تعميق هذه الكراهية في وعي الجماهير العربية. وهنا، يعمد إلى نسج أوهام مؤامرة إسرائيلية لتفقير الشعوب العربية. هو هنا، يعرف يقينا أن إسرائيل لا علاقة لها بالفقر المتفشي في كثير من المجتمعات العربية، ولكنه يحيك “مؤامرة إسرائيلية” مفتعلة، بحيث تبدو إسرائيل وكأنها هي السبب الأول والأخير لهذا الفقر، وأنه ـ لولا هذه المؤامرة الإسرائيلية ! ـ لعاشت هذه الشعوب في رغد وأمن وسلام !!!
وقد يكون التحريض داخليا، أي ينشره بعض المعارضين، ليس بوصفه الحقيقي “معارضة”، أو “مناكفة”، وإنما تحت شعار أعم، يتمثل في الادعاء بأن ثمة مؤامرة دولية كبرى، وأن الحكومة المستهدفة بالتحريض، متواطئة مع هذه المؤامرة الدولية، وبالتالي، ليست محلة ثقة شعوبها.
وقد يكون التحريض ضد فئة مُعيّنة/ مجال عملي مُحَدّد، أو توجّه مهني خاص. فقد يكون لأحدهم مشكلة ما مع رأس المال، مع البنوك، مع الاقتصاد، فيحاول التحريض عليهم من خلال تصوير الاقتصاديين وكبار الرأسماليين على أنهم يحيكون “نظرية مؤامرة” تدور رحاها على الكوادر العاملة أو على عموم المستهلكين. وقد يكره أحدهم “قطاع الصحة” أو يكون له موقف من “الأطباء” لهذا السبب أو ذاك؛ فيحيك “نظرية مؤامرة” تشكك بهلمهم أو بأمانتهم؛ لمجرد التحريض الرخيص.
5ـ وقد يكون نسج “نظرية المؤامرة” لهدف خاص جدا، وقد يكون هدفا بسيطا أو تافها، ولكنه يريد أن يظهره ـ من خلال نظرية المؤامرة ـ في صورة الهدف العام. فمثلا، كثير من الذين ينسجون “نظرية مؤامرة” عن لقاح كورونا، قد يكون دافعهم الحقيقي مجرد الخوف الطبيعي من “إبرة التطعيم” ! لكن، لأنه هذا الخائف يشعر أن تصريحه بمثل هذا الخوف مَعيبٌ اجتماعيا، فإن يهرب من ذلك إلى نظرية المؤامرة. يعني بدل أن يقول صراحة: إنني خائف من إبرة التطعيم (وكثير منا يخافها ويكرهها، وهذا طبيعي)، ولهذا لن آخذها؛ وحينئذٍ، يخاف أن يُعيّر بذلك من وسطه الاجتماعي الجاهل، فإنه يقول بدل ذلك: إنني لن آخذ التطعيم؛ لأنه مؤامرة (ومضمون ذلك طبعا: ليس لأنني خائف من إبرة التطعيم). وبهذا، تصبح “نظرية المؤامرة” ملجأ شخصيا من هذا الحرج الاجتماعي، بدليل أن كثيرا من هؤلاء القائلين بها، سيأخذون التطعيم؛ لو كان التطعيم على شكل “أقراص” يتناولنها عن طريق الفم؛ وسيتركون “نظرية المؤامرة” من أساسها !
6ـ الشعبوية الجماهيرية. فنظرية المؤامرة لما تتضمّنه من إثارة، ومن “ادعاءات الذكاء”، ومن الإيحاء بأن صاحبها قد اطلع على ما لم يطلع عليه غيره، ولأنها تجعل من يُردّدها في المجالس يَبدو وكأنه “عليم بالأسرار”، ولما تَحْمله من “طابع حكواتي”…إلخ المغريات التي تجتذب العوام/ الجماهير، وتصبح مدار حكاياتهم البهلوانية، فقد أصبح كثيرون ـ من إعلاميين ومشاهير ـ يُغازلون الجماهيرية من خلال ترديد “أوهام المؤامرة” والتأكيد عليها، أو ـ على الأقل ـ بالسكوت عنها. وبالمقابل، أصبح الآخرون لا يجرؤون على تفنيدها؛ خوفا من تراجع/ تضاؤل جماهيريتهم التي يتكسّبون بها ـ ماديا ومعنويا ـ في أكثر من مجال.
هكذا تبدو “نظرية المؤامرة” كخطاب في “التجهيل” أو في “الاستغباء العام”. وهي كـ”حزمة أوهام غير متناسقة” لا تخصّ وباء كورونا أو لقاح كورونا، حتى وإن بدت فيه واضحة المعالم، صارخة في مستوى بلاهتها، بل هي موجودة على الدوام، وتروج أسواقها في أوقات الأزمات السياسية أو الاجتماعية، ومنها الصحيّة؛ منذ أقدم العصور وإلى اليوم، حيث تجد لكل سردية معلنة ظاهرة موثقة، سرديةً أخرى مُحَمّلة بكثير من الأسرار، أو بكثير من الأوهام.
هذا فيما يخص “نظريات المؤامرة” على وجه العموم. أما ما يخص “نظرية المؤامرة” المتعلقة بوباء كورونا ولقاحاته، فهي هزيلة جدا، وغبيّة جدا، وخُرافية جدا؛ لأن العلم/ البحث/ التوثيق…إلخ رافق مسار الوباء ومسار اللقاحات منذ أيامهما الأولى، واعتمدت مسارَ الإجراء العلمي كلُّ المؤسسات الصحية المسؤولة على مستوى العالم أجمع. وهذا عكس كثير من “نظريات المؤامرة” الأخرى التي تغيب فيها المعلومات العلمية المُوَثّقة أو الأخبار المؤكدة، فتحضر هذه النظريات المُتَخيّلة لملء الفراغ/ الغياب.
وقولي عن “نظريات المؤامرة” المتعلقة بوباء كورونا ولقاحاته إنها هزيلة جدا، وغبية جدا، وخرافية جدا ليس محض توصيف عابر، بل هو تشخيص لواقعها؛ من حيث كونها لا تسد فراغا، أي لا تُغطّي بالتوهم مساحة مجهولة، بل هي تزاحم بالتوهم، بل وتحارب به، مساحة مملوءة بقطعيات العلم ويقينياته. إنها لا تُفسّر المجهول، بل هي تُكَذّب العلم صراحة، وتستخفّ ـ بأعلى درجات الاستحماق ـ بكل بدهيات المنطق، وتمارس حالةَ استهبالٍ عَلني في مقاربتها لحقائق الواقع.
إننا، وبطرح أبسط الأسئلة؛ نكشف مستوى تهافتها، ومستوى تفاهة ـ وربما عَته ـ القائلين بها. نقول: إذا كانت “كورونا” مؤامرة، فهي مُؤامرة مَن على مَن ؟ لا يمكن أن تكون هكذا مؤامرة بالمطلق، لا بد أن هناك من صنعها، فمن هو؟ ثم كيف له أن جعل العالم أجمع ـ بهيئاته السياسية والاجتماعية والصحية و…إلخ ـ يخضع له ويشاركه التآمر؟ ثم، ما هدفه من وراء ذلك ؟ ومَن المقصود بالمؤامرة أصلا ؟ هل البشر كلهم مستهدفون بهذه المؤامرة/ بهذا الوباء العام ؟ ومَن الذي له مصلحة بأن يستهدف كل البشر ؟ أم الهدف مجموعة بشرية مُحدّدة، كالعرب مثلا، أو المسلمين مثلا ؟ وكيف يكون ذلك؛ وغالبية المتضررين هم من غير العرب ومن غير المسلمين ؟ ثم لماذا يُستهدَف المسلمون أو العرب تحديدا ؟ ولماذا…إلخ الأسئلة التي يكفي سؤال واحد منها لنسف “أوهام المؤامرة” من أساسها؛ لأنه لن يستطيع أي من هؤلاء الإجابة على سؤال واحد منها إجابة علمية محددة، فما بالك ببقيتها، وبما يَتفرّع عنها من أسئلة تُحاكِم أشهرَ قصص الغباء في القرن الحادي والعشرين.
ثم إنَّ كلَّ حكايات “نظريات المؤامرة” لا تستقيم إلا بأن تجعل الذات جزءا أصيلا من العناصر الفاعلة في المؤامرة، وذلك أن هذه النظريات التي تدّعي أن الوباء أو اللقاح أو كليهما، مؤامرة، تصطدم بما تُقرّره المؤسسات الصحية من داخل البلد التي يتحدث فيها أصحاب هذه النظرية. وهذا يعني أحد أمرين؛ لا ثالث لهما: إما أن وزارات الصحة في كل الدول العربية أو الإسلامية مثلا (ناهيك عن العالم كله)، بكل منسوبيها من أطباء وباحثين ومحللين وإداريين (وهم منا وفينا، آباؤنا وإخواننا وأبناؤنا)، كل هؤلاء ـ رغم تخصصاتهم الدقيقة، ورغم توافرهم على البحث والمتابعة، ورغم خبراتهم التي تمتد لعشرات السنين ـ قد جهلوا حقيقة “المؤامرة”، أو أنها انطوت عليهم؛ فلم يعلموا بها؛ في حين علم بها أصحاب نظرية المؤامرة ! وإما أنهم شركاء في “المؤامرة”، وبالتالي؛ يُرِيدون الإضرار بأهلهم ومواطنيهم. وطبعا، كلا الأمرين مستحيل.
حقا؛ لا يعني الترويج لـ”أوهام نظريات المؤامرة” في مسألة الوباء أو اللقاح؛ إلا اتهام وزارات الصحة بمؤسساتها ومراكز أبحاثها وأطبائها وباحثيها وإدارييها…إلخ القائمين على المؤسسات العلمية في قطاع الصحة، إما بـ”الجهل” أو بـ”التآمر”. فإذا كانوا جهلة بحيث عرف “بعض الهواة” من العوام ما لم يعرفوه؛ فكيف يثق بهم المرء فيما هو أخطر وأعظم ؟ كيف يُعالِج في هذه المؤسسات التي لا يثق بعلمها أو لا يثق بأمانتها ؟ أليس هو يلجأ إليها في كل طارئ صحي صغير أو كبير ؟ أليس أحيانا يضع حياته وحياة أحبابه أمانة بين يدي هؤلاء المتخصصين الذين يزعم اليوم أنهم يجهلون ما يعلمه؛ أو أنه بـ”أوهامه” يعلم ما لا يعلمون ؟ لو سقط أبوه أو أمه أو ابنه أو ابنته أو زوجته بين يديه، هل سيذهب بهم لهذه المستشفيات/ المؤسسات الصحية؛ واثقا بعلومها وأمانتها، أم سيتصل برفقائه من أصحاب “أوهام المؤامرة” لينقذوا أحبابه من الخطر الداهم بقراءة تعاويذ نظريات المؤامرة عليهم ؟!
أخيرا، لِنَتَذكّر ـ دائما ـ الحقيقةَ التالية: مَن لا يَقتنِع بالعقل/ بالعلم؛ سيقتنع بالجهل/ بالخرافة؛ لا مَحَالة؛ فليس في الوعي الإنساني فَراغٌ للحياد.