بقلم: حلمي النمنم – المصري اليوم
الشرق اليوم- لم يكن «وجيه غالي» مستعدًا لأن يتبنى وجهة النظر الإسرائيلية بتمامها في قضية الصراع مع العرب، كما لم يكن يسلم بالكثير مما يرفعه العرب من مطالب، وفي بعض المواقف بدا شديد التحامل على المصريين تحديدًا والعرب عمومًا يوم الأربعاء ٢ أغسطس ٦٧، ذهب إلى القدس القديمة (الشرقية) بمصاحبة «إدنا» صديقته الإسرائيلية، أخذته إلى فندق قديم، بدا مهجورا، يقع الفندق على تلة، أسفلها كنيسة كاثوليكية جميلة معماريا وعريقة، جلس في شرفة الفندق التي تتيح له أن يطل على الكنيسة بأكملها، لاحظ أن هناك آثار طلقات رصاص بجدران الكنيسة العريقة، إحداها أصابت الصليب المعلق على الحائط بالمدخل، فبددت جماله. شاب عربي يبيع المثلجات أمام الفندق ويستمع إلى موسيقى «برامز» ويقرأ كتابًا بالانجليزية من منشورات «دار بنجوين» الشهيرة جدا وقتها وإلى يومنا هذا، تحدث معه بالإنجليزية ثم بالفرنسية وبالعربية.. هل هي عملية استعراض لإجادته اللغات الثلاث؟!.. المهم حدّثه الشاب وغيره من العرب عما قام به الجنود الإسرائيليون، كانوا محصنين بالفندق، كأنهم يتسلون بتخريب الفندق القديم، السجاد والنجف وغير ذلك، وما أذهل العرب هو ذلك العدوان الإسرائيلي البشع على دار عبادة، لم يكن بها أحد وقت الضرب ولا مثّلت أي تهديد لأحد.. وسط هذا الحزن النبيل الذي يلف شباب القدس، وتأثره هو بما سمع، إذا به يعلق بالقول في يومية الجمعة ٤ أغسطس: «ومع ذلك، أخشى أنه لو احتل الجنود المصريون بلدة إسرائيلية، لكانت الأمور أسوأ بكثير».
ولا أعرف من أين بنى ذلك التخوف، لأن المصريين لم يبادروا بمهاجمة إسرائيل من قبل في حرب يونيو ٦٧، كانت إسرائيل هى التى بادرت بالهجوم، رغم تعهد عبدالناصر بعدم البدء بشن هجوم على إسرائيل، تعهد بذلك للقيادة السوفيتية والإدارة الأمريكية والرئيس الفرنسى شارل ديجول، لم يكن تعهدا سريا، بل أعلنه في مؤتمر صحفي «عالمي»، وفتح الباب لحل سياسي حين كلف زكريا محيي الدين بالسفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية صباح الخامس من يونيو للتباحث مع الرئيس الأمريكي «جونسون» فى تجاوز الحرب وتهدئة الأمور.
وفي سنة ٥٦، كنا نحن مَن تعرّض للعدوان والهجوم الإسرائيلي على سيناء.. حتى حرب ٤٨ كانت مهمة القوات العربية التي دخلت فلسطين حماية عرب فلسطين في المناطق التى حددها قرار التقسيم لهم، بعد أن هوجمت من القوات الإسرائيلية، لم يحدث أن بادر عبدالناصر بمهاجمة إسرائيل، حتى حرب الاستنزاف كانت كلها عمليات داخل سيناء، باعتبارها أرضًا مصرية محتلة، وكانت ضد قوات عسكرية ولم تكن ضد مدنيين ولا على مواقع مدنية.. إسرائيل هي التي هاجمت مدننا ومصانعنا في بحر البقر وأبوزعبل وغيرهما، فضلا عن مدن القناة، ولم نفعلها نحن، كما أنه لم يثبت أن هاجم جنودنا دار عبادة، بل إن المعابد اليهودية في مصر كانت مؤمنة تمامًا ولم تمس بسوء، ولم يحاول أحد من المواطنين الاعتداء عليها.. والحق أنه – لو كان وجيه صحفيا محترفا – كان عليه أن يستفسر ويسمع من المسؤولين الإسرائيليين تفسيرهم لتلك الوقائع.. أقصد واقعة ضرب الكنيسة وتخريب الفندق بالقدس، لكنه تعامل – هنا – بمنطق السائح العابر، وليس المحرر الذي جاء يحقق ويبحث.
ويبدو أنه كان هناك من يلاحظ أن «وجيه» ليس لديه تركيز، ويريد للرحلة أن تكون أكثر عمقا وثراء، لذا نجد صديقه «مداد شيف» ينصحه بأن يلتقي مسؤولا سابقا هو العميد هركابي، الذي كان مسؤول المخابرات العسكرية الإسرائيلية بين عامي ١٩٥٥ – ١٩٥٩، أي أن عملية عدوان إسرائيل على سيناء سنة ٥٦ تمت فى عهده، وكذلك الغارة على قواتنا في غزة سنة ٥٥، والتي أدت إلى أن يصبح الصراع مع إسرائيل أولوية لدى القيادة المصرية، كانت الأولوية منذ يوليو٥٢ لقضايا التنمية والنهوض بالمواطن اجتماعيا وثقافيًا.. نعم، لقد وقعنا معاهدة سلام مع إسرائيل سنة ٧٩، وقعها الرئيس السادات وأقرها مجلس الشعب، ليس هذا فقط، بل طرحت المعاهدة للاستفتاء العام ونالت موافقة الأغلبية، أنهت المعاهدة حالة الحرب بيننا، وتمت إقامة علاقات دبلوماسية، أي منذ ٤٢عاما، بما يفوق فترة الحرب التي استمرت ٣١ سنة وأظهرت كل من مصر وإسرائيل تمسكهما بالسلام وحرصتا عليه، حتى لو اعتبر «سلامًا باردا» لكنّ التاريخ هو التاريخ، وقائعه لا تتبدل ولا يجب إطلاق تصورات غير دقيقة حولها.
ولما ترك هذا الرجل «هركابي» الحياة العسكرية، صار أستاذا جامعيا متخصصا فى الصراع العربي – الإسرائيلي، ويقرأ بالعربية كل ما يُكتب ويصدر بين العرب عن إسرائيل.. هذا «مصدر» صحفي مهم وكنز معلومات وأفكار، وهو خارج المسؤولية، لكنه يبقى رجل الدولة الذي يعرف ويتابع الكثير وربما يؤخذ رأيه فى بعض الأمور، ومن ثم تكون حريته فى الكلام والقول أكثر.. يضاف إلى ذلك أن صارت لديه خبرات مدنية وأكاديمية إلى جوار تاريخه العسكري والمخابراتي.
تم تحديد الموعد وجلسا معًا، كانت ملاحظة وجيه أنه «شخصية عسكرية صارمة»، ويجب أن يكون ذلك غريبًا، هذا رجل المخابرات العسكرية.. يلاحظ كذلك أن «قفاه مستقيم مثل الألمان»، لا نعرف هل هذا التشبيه برىء أم أنه يمارس عملية إسقاط بينه وبين الألمان بتاريخ النازية المعروف من إحراق اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية «الهولوكوست».. هل يقصد هذا التشبيه أم أنها ملاحظة شكلية عابرة؟!.. كل شيء لديه وارد.
يقول عنه: «وجدت عقله متواضعا ومحدودا»، لكن لا يمكن القول إنه غير كفء، ثم إن لديه تبريرا لكل ما تقوم به إسرائيل، والحجة أنها محاطة بسياج من العداء العربي «انظر ما تقوله صوت العرب عنا»، استمرت المقابلة ساعة «يبدو أنه لا يعرف أو لا يهتم بوضع العرب الإسرائيليين».. هنا الاهتمام بمن يطلق عليهم «عرب ٤٨» أو العرب «داخل الخط الأخضر»، لكن ماذا عن العرب فى الأراضى التى احتلتها إسرائيل قبل أقل من شهرين؟.. عموما، لم يكن راضيا عن تلك المقابلة التى لم يقدم فيها سوى انطباعات شخصية عن «هركابى»، يقول: «لم يكن يستحق الأمر السفر كل هذه الطريق لمقابلته».
الواضح أنه لم يذهب مسلحا بالمعرفة الكافية عن تفاصيل الواقع فى إسرائيل ولا تفاصيل ما يجرى فى العالم العربى، لذا فإن ما لديه كان معلومات عامة عن الموقف، وهى غالبا معلومات سماعية أو شفهية.. إنه لم يشأ أن يجلس مطولًا مع فلسطينيين يستمع منهم، حتى«فوزى»- وهو يحمل الجنسية الإسرائيلية- الذى كان لديه ما يقوله ويريد أن يتحدث إليه تهرّب منه واعتبره كئيبا وليس مصدرًا للثقة.. الإسرائيليون الذين التقاهم ليس بينهم، واليهودية كما يقول هو عنهم شىء سوى أنهم يقولون «شالوم» عند التحية. ولو صح ذلك فكيف يعيشون فى إسرائيل، بل كيف أقاموا الدولة؟!.
ومع ذلك، فإن المصادفات تلقى أمامه ببعض الأوراق، كما حدث فى سهرة له مع فنان (تشكيلى) إسرائيلى، هو«شاتس»، الذى دعاه إلى تناول الشراب والطعام، كان هو يقدره، حدثه عن جمال القدس قبل ثلاثين عاما، أى قبل تقسيمها، والده أسس أول مدرسة فنية – حرفية بالقدس، إلى جوار ذلك تجمعه صداقة عميقة وقديمة مع الرسام والروائى الأمريكى الأشهر «هنرى ميللر»، وأصدرا معا كتابا مشتركا سنة ٤٧.
«ميللر» صاحب رواية «مدار السرطان»، التى تعد من كلاسيكيات الأدب الأمريكى، رغم أنها ظلت ممنوعة فى أمريكا لأكثر من ربع قرن، هو كذلك صاحب رواية «مدار الجدى»، وقد ترجمتا إلى اللغة العربية، فضلا عن أعمال أخرى له متاحة بالعربية.. حققت أعماله نجاحًا لدى كثير من القراء والنقاد العرب، أطلعه شاتس على حقيبة ضخمة من الرسائل التى تبادلها مع ميللر على مدى ثلاثين عاما، آخر تلك الرسائل برقية من ميللر بعد حرب يونيو مباشرة، يقول فيها لهم: «رائع أيها الإسرائيليون، لا تعيدوا شبرًا واحدًا من الأرض».
وكان تعليقه: «حتى أنت يا هنري».
كان تركيزه في إسرائيل على الخارجية الإسرائيلية ووزيرها أبا ايبان، كي يلتقيه ويجري معه حوارًا.
.. والحديث متصل.