بقلم: فيل توماس – إندبندنت عربية
الشرق اليوم – فيما تحتفل فرنسا والفرنكوفونيون حول العالم بيوم “الباستيل” هذا الأسبوع (ذكرى انطلاق الثورة الفرنسية عام 1798)، من المفيد استرجاع اقتباس عظيم عن الثورة الفرنسية ربما يحمل في طياته دلالات مشؤومة عن زمننا.
خلال زيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى الصين عام 1972 لمحاولة تدعيم انفراج العلاقات بين واشنطن وبكين، حل نيكسون ضيفاً على زهاو إنلاي [أو تشو إنلاي]، أحد أهم مساعدي الزعيم ماو، وهو كان أيضاً من قدامى المحاربين الذين شاركوا في الحرب الأهلية، واختبر المعاناة خلال “المسيرة الكبرى”، وكان في قلب الزلزال السياسي وتداعياته التي مزقت البلاد من “الثورة الثقافية” إلى “الوثبة العظيمة إلى الأمام” [المعروفة بالخطة الخمسية لتحويل الصين نحو الاقتصاد الصناعي بين 1958 و1962]. زهاو كان أيضاً مثقفاً معروفًا عنه اهتمامه بتاريخ الثورات.
خلال حفل العشاء سُئل زهاو عن موقفه من أبرز نتائج الثورة الفرنسية. ونقل عنه أنه تريث قبل أن يجيب، وإشاحته النظر بعيداً ثم قوله في نهاية المطاف “إنه لمن المبكر أن نحكم” [كيف ستكون النتائج].
ينظر إلى إجابة زهاو المبهمة كمثال بليغ على موقف القيادة الصينية ونظرتها المتأنية في تقييم الأحداث التاريخية، مقارنة بنظرة منافسهم الأميركي الأقل صبراً. (قبل سنوات وللأسف كشف تشاس فريمان جونيور Chas Freeman Jr وهو مترجم نيكسون في حينه، ويبدو أنه كان أيضاً مشاغباً من الطراز الأول، أن زهاو كان يقصد احتجاجات الطلاب الفرنسيين في مايو “أيار” 1968، لكن أثر خطأ الترجمة كان من القوة بحيث انتفت الحاجة إلى تصويبه).
هذه الجملة تذكرنا أيضاً أن التفسير الحقيقي لأي أحداث عاصفة يبقى مبهماً وغير شفاف في عين معاصريها، مقارنة بتفسيرات من ينكبون على كتب التاريخ لمراجعة الأحداث بعد قرن ونصف القرن على وقوعها، وما يحمله ذلك من استفادة خلاصات هؤلاء من عامل الزمن.
كان ليكون ذلك صائباً في تناول المؤرخين اقتحام سجن الباستيل في 1798. فنحن نعرف اليوم فقط أنها كانت الشرارة التي أطلقت الثورة الفرنسية. لكن قلة ممن عاصروا الأحداث كانوا ليتنبؤوا بمسار ذلك اليوم الدرامي ومآلاته. بالنسبة إلى الغالبية العظمى من الفرنسيين، لم تتغير الأمور بعد اقتحام السجن لفترة طويلة. حتى الملك لويس السادس عشر وماري أنطوانيت بقيا على عرشهما لسنوات بعد الهجوم (وكان لديهما المتسع من الوقت والفرص لتلافي النهاية ورحلتهما اليتيمة بالعربة إلى المقصلة والمقبرة).
وعلى المنوال نفسه، قبل ألفي عام [من الثورة الفرنسية]، حين شهد المواطنون الرومان تنصيب أغسطس قيصر، أول إمبراطور عليهم، لم يدركوا أن ذلك الحدث كان مقدمة لنهاية خمسمئة عام من ديمقراطية جمهورية مدوزنة بعناية فائقة، وأن نصف ألفية كاملة من الحكم الاستبدادي كانت تنتظرهم.
التاريخ كما هو معروف نسخة عن أخبار الماضي، إذاً أخبارنا اليوم ستكون جزءاً من التاريخ في المستقبل. وما يصح في يوم اقتحام سجن “الباستيل” هو أيضاً صحيح عندما يتعلق الأمر بالهجوم على مبنى حكومي آخر من قبل عصابة غاضبة على بعد 3000 ميل، وبعد 232 سنة.
كيف سيقيم المؤرخون أعمال شغب مبنى الكابيتول في 6 يناير (كانون الثاني) 2021؟ هل سيرون أنها بداية حقبة تغيير تطلق سلسلة أحداث تترك الولايات المتحدة الأميركية متغيرة جذرياً، تماماً كما جرى في فرنسا في العقود التي تلت 1798؟ أم أنها ستكون مجرد عثرة مرفقة بعدد من النتائج المعروفة، ولكنها وازنة أكثر بقليل من أحداث 1968؟
هذه هي الأسئلة التي يختلف حولها اليوم الجمهوريون والديمقراطيون.
فيما يمثل هذه الأيام مئات من مثيري الشغب أمام المحاكم، شكل الديمقراطيون لجنة للتحقيق في التمرد الذي حرض عليه ترمب، بعدما عرقل الجمهوريون لجنة فاعلة أخرى كانت تسعى للتحقيق في تلك الحادثة. صحيفة “اندبندنت” كانت قد كتبت أن عضو الكونغرس ليز تشيني، الجمهورية المعارضة لترامب قد أصبحت عضوة في اللجنة الجديدة، مما يعطي اللجنة نظرياً على الأقل صبغة تمثيلها للحزبيْن.
بالنسبة إلى الجمهوريين الآملين بالسيطرة على سردية ما جرى، ظهرت استراتيجيات جديدة [في المشهد الأميركي]. فإعاقة عمل الديمقراطيين بأي ثمن تبقى خياراً مفضلاً (لدى الجمهوريين)، والتقليل من أهمية تلك الحادثة يبقى أمراً رائجاً [سائراً] (كقول أحد السياسيين “كانت زيارة سياحية عادية” على الرغم من أنه تبين لاحقاً أنه كان مرعوباً مذعوراً يختبئ وراء حاجز أقيم لحماية النواب في 6 يناير)، فاعتبار أن الغوغاء الذي احتشد كان مكوناً من إرهابيين يساريين متنكرين هو مستبعد للغاية على الرغم من وجود من يؤيد تلك الرواية.
الرئيس السابق ترامب كان قد سعى إلى الترويج لتلك الروايات وأكثر. وليس موقفه الجديد الذي يمجد آشلي بابيت، العسكرية المتقاعدة من القوات الجوية التي حاولت اختراق أحد الممرات المؤدية إلى مكان اختباء النواب الخائفين، قبل قتلها برصاص الأمن واحداً منها، وهو غيّر روايته من جديد وآثر التركيز على رسم صورة لغوغائه بأنهم صبية طيبون. يوم الأحد الماضي قال على قناة “فوكس نيوز” إن “هؤلاء كانوا أشخاصاً مسالمين، وهم كانوا أشخاصاً عظيمين”. وقال أيضاً إن “الحب” في ذلك النهار كان يلف المكان. [كلام ترامب] هذا كان بمثابة معلومة جديدة لأكثر من 140 من رجال الأمن الجرحى ربما.
ولكن هل يفعل الديمقراطيون ما يكفي كي يظهر هذا الاعتداء على الديمقراطية على حقيقته والأهم التقاط الفرصة المتاحة بعده؟
كما كان زهاو إينلاي ليقول، من المبكر الحكم بالقضية. لكن في المعركة للسيطرة على سردية ما جرى وتبعات الهجوم على مبنى الكابيتول، على هؤلاء الساعين لحماية الديمقراطية الأميركية للأجيال المقبلة أن يعوا أن الوقت يداهمهم.