الرئيسية / مقالات رأي / تونس . . . انهيار النظام الصحي جزء من انهيار النظام السياسي

تونس . . . انهيار النظام الصحي جزء من انهيار النظام السياسي

بقلم: أحمد نظيف – النهار العربي

الشرق اليوم – منذ أن خرج الوضع الصحي عن السيطرة تحوّل مطار تونس إلى مدرج لطائرات المساعدات من كل الاتجاهات شرقاً وغرباً. فالعنوان الأبرز في تونس خلال هذا الأسبوع العصيب هو، الموجة الوبائية غير المسبوقة في حدتها، حيث سجلت السلطات الصحية رقماً قياسياً جديداً في حصيلة الوفيات اليومية جراء الإصابة بفيروس كورونا المستجد، فيما يكابد النظام الصحي المتهالك لتحمل الأعداد الكبيرة من المرضى في أقسام العناية المركزة.
يُلقي التفشي الكارثي للوباء بظلاله الثقيلة على الوضع السياسي، إذ تُحمّل قطاعات واسعة من الشعب حكومة هشام المشيشي مسؤولية هذه الموجة وأعداد الوفيات المرتفعة جداً، حيث تحتل تونس المركز الثاني عالمياً في نسبة الوفيات قياساً للعدد الإجمالي للسكان.
لطالما وُضع القطاع الصحي في تونس في موضع النقد والمساءلة منذ سنوات، مع أن الوضع التونسي كان لعقود من بين الأفضل قياساً بدول المنطقة على مستوى الرعاية الصحية الأساسية والرعاية الصحية في المستشفيات وحتى الصناعات الدوائية. لكن الانهيار الحاصل هذه الأيام لم يبدأ بالأمس القريب، بل له جذور عميقة، تتعلق أساساً بالاقتصاد السياسي الذي سلكته نخب “الدولة الوطنية” منذ استقلالها السياسي في عام 1956، وبالتحولات التي شهدتها مواقع الهيمنة بين طغيان نمط من رأسمالية المحاسيب على إدارة الدولة والمجتمع منذ نهاية سبعينات القرن الماضي من جهة، وانسحاب الدولة التدريجي من إدارة القطاع العام لفائدة أطراف أخرى.
في أعقاب سقوط الرئيس بن علي فُتحت أبواب الأمل واسعة، حيث كانت الصحة إحدى أهم الملفات التي يجب على الثورة وضعها كأولوية لخطة الإصلاح، بيد أن ذلك لم يقع. صعدت إلى السلطة قوى سياسية لا تختلف توجهاتها الاقتصادية والاجتماعية عن النظام السابق، بل كانت التجربة التاريخية شاهدةً على أنها أسوأ من النظام. وخلال 10 سنوات شهدنا انهياراً للقطاع الصحي العام، وواصلت المستشفيات الخاصة الانتشار، بل تحولت إلى وسيلة لتبييض “رأسمال التهريب” الذي راكمه أغنياء الأطراف من خلال التبادل الحدودي غير الرسمي مع ليبيا. كما شهدت هذه الفترة انهيار برامج الصحة الموجهة للمدارس والجامعات وبرنامج الصحة الإنجابية. لكن الوباء كان النقطة التي أفاضت الكأس وكشفت عن حقيقة الوضع.
لم تنجح الحكومة الحالية في استباق الموجة الحالية العاتية من خلال توفير العدد اللازم من اللقاحات، حيث كانت تونس أخر الدول تقريباً في المنطقة جلباً للقاحات في آذار (مارس) الماضي وبقيت معتمدة على مبادرة “كوفاكس” الدولية لمساعدة الدول الفقيرة، إذ إنه في ظل صراع دولي خفي ومعلن حول اللقاحات لم تنجح “كوفاكس” في تحقيق الخطط التي رسمتها في تغطية حاجات هذه الدول. ومع ذلك بقيت الحكومة التونسية تنتظر من دون أن تستعد لمثل هذه الموجة التي كانت متوقعة من اللجان العلمية، بخاصة في ظل الانتشار السريع للمتحورة “دلتا” على مستوى العالم. كما أنها لم تؤمن الحد الأدنى من المنظومة الاسعافية، حيث يعاني الكثير من المرضى من عدم وجود أماكن في المستشفيات ونقص الأوكسجين الطبي وغيرها من المشاكل الهيكلية للنظام الصحي التونسي الذي يعاني قبل الجائحة أصلاً.
أما الرئاسة التونسية، فقد حاولت الاعتماد على الجيش في تعميم عملية التطعيم، ويبدو أن هذا الخيار قد لقي نجاحاً كبيراً حتى اليوم، بعد أن أطلقت إدارة الصحة العسكرية حملة تلقيح واسعة النطاق فاقت نتائجها في يومين ما حققته آلية التطعيم التي وضعتها الحكومة خلال أربعة أشهر ويتوقع أن يستمر في مسح كامل الولايات تدريجياً. وهذا يمكن أن يحقق للرئيس قيس سعيّد سبقاً سياسياً وشعبياً على خصومه في الحكومة المدعومة من “حركة النهضة”.
في المقابل بدأ موقف “حركة النهضة”، صاحبة الأغلبية البرلمانية، في التحول نسبياً، من الحكومة من دون التخلي عن المشيشي والتوجه نحو “حكومة سياسية” جديدة، فقد دعا مجلس شورى الحركة في بيان رسمي إلى تشكيل حكومة سياسية، مع الإبقاء على هشام المشيشي، في مسعى منها لحلحلة الأزمة السياسية وتجاوز الخلاف مع رئيس الجمهورية قيس سعيّد. وتقر “حركة النهضة” أن الحكومة الحالية قد فشلت تماماً في إدارة البلاد لا سيما في ما يتعلق بمعالجة أزمة وباء كورونا. وتعي جيداً أن الغضب الشعبي من السياسات الحكومية قد بلغ مستوى غير مسبوق وأن الرهان على الحكومة ودعمها سيجعلانها في مرمى هذا الغضب وهي تبحث عن الصيغ المناسبة للتخلي عنها وعن رئيسها هشام المشيشي.
كما أن “النهضة” واعية جيداً إلى أن دعوتها إلى تشكيل حكومة سياسية، مع الإبقاء على هشام المشيشي، في مسعى منها لحلحلة الأزمة السياسية وتجاوز الخلاف مع رئيس الجمهورية قيس سعيّد، لن تجد أي تجاوب لأن الخلاف الرئيسي ليس بين الرئيس والحكومة ولكنه خلاف ثنائي بين رأسي السلطة التنفيذية: الرئيس سعيّد والمشيشي، ولن يكون هناك أي مرور لأي حوار أو تفاوض إلا برحيل المشيشي عن السلطة وقبول “النهضة” بشروط الرئيس وعلى رأسها الشروع في مناقشة تغيير النظام الرئاسي، وأعتقد أن ذلك لن يحدث إلا في صورة إنقلاب موازين القوى في شكل كبير ضد “النهضة”، كتخلي أحد حلفائها عنها أي حزب “قلب تونس” مثلاً أو توجه الرئيس سعيّد نحو إعلان حالة “الخطر الداهم” كما ينظمها الدستور، والتي تمنحه هامشاً مهماً من السلطة التقديرية بخاصة في ظل غياب المحكمة الدستورية.

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …