بقلم: د. محمد عاكف جمال – صحيفة “البيان”
الشرق اليوم – في الساعات الأولى من دخوله المكتب البيضاوي في القصر الأبيض أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن الحرب على إرث سلفه دونالد ترامب بجملة قرارات تنفيذية، حيث وقّع على خمسة عشر أمراً رئاسياً ألغى بموجبها عدداً من قرارات ذلك السلف. من أبرز القرارات التي اتخذها الرئيس الجديد هو قرار العودة لاتفاقية باريس للمناخ التي انسحب منها ترامب في الأول من يونيو عام 2017 في أخطر انتكاسة لهذه الاتفاقية.
الرئيس بايدن يعين وزير الخارجية الأسبق جون كيري، أحد مهندسي اتفاقية باريس، عضواً في مجلس الأمن القومي ومسؤولاً عن ملف المناخ (المبعوث الرئاسي لشؤون تغير المناخ)، وهو حين يستحدث هذا المنصب المتميز يبعث برسالة بمنتهى الوضوح بأن الملف البيئي أصبح من ملفات الأمن القومي الأمريكي. أهمية قرار عودة واشنطن لاتفاقية باريس لا تقتصر على مجرد زيادة في عدد الدول الموقعة على مضمونها، بل تتجاوز ذلك بحكم ما أصبح يتمتع به المسؤول الأمريكي عن الملف البيئي من سلطة في المجلس الأمن القومي الأمريكي من نفوذ إلى إكسابها قوة وقدرة على إصدار قرارات دولية فاعلة لصالح البيئة، فالولايات المتحدة الدولة الأولى في العالم بحجم استهلاكها للطاقة وبحجم دورها القيادي عالمياً على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية.
اتفاقية باريس للمناخ ملزمة لجميع الوفود الموقعة عليها والتي بلغ عددها مئة وخمسة وتسعين وفداً ممثلين لدول ولمنظمات مجتمعية فاعلة وهي لم تأتِ كحدث عرضي من غير مقدمات، بل جاءت ثمرة جهود بذلت على مدى زمني يزيد على الربع قرن توجت في المؤتمر الحادي والعشرين للأمم المتحدة الذي عقد في العاصمة الفرنسية عام 2015 تنفيذاً للقرار الذي اتخذته قمة الأرض التي عقدت في ريو دي جانيرو في العام 1992 في تثبيت نسبة الغازات الدفيئة المسؤولة عن الاحتباس الحراري عند حد يحول دون وصول الأضرار بالتوازنات البيئية حدوداً يصعب تداركها، والتي أكدت عليها قمة كيوتو عام 1997 التي دخلت حيز التنفيذ عام 2005.
للحزب الجمهوري الأمريكي سجل سلبي فيما يتعلق بالموقف من الملف البيئي، فالولايات المتحدة في عهد الرئيس بوش «الابن» رفضت التوقيع على اتفاقية كيوتو، كما أنها في عهد الرئيس بوش «الأب» تحفظت على مقررات قمة الأرض في ريو دي جانيرو.
الواقع البيئي يدعو حقاً للقلق الشديد. فعلى الرغم من دخول مصادر جديدة لإنتاج الطاقة، الطاقة النووية والطاقات المتجددة، لا يزال الاقتصاد العالمي يرتكز وبشكل كبير على طاقة الوقود الأحفوري، النفط والفحم والغاز، ويضطر القائمون على إدارة هذا الاقتصاد، دولاً ومؤسسات، على تقبل ما يترتب على ذلك من أضرار تلحق بالثوابت البيئية وأبرزها انبعاث غازات الاحتباس الحراري وعلى رأسها غاز ثاني أوكسيد الكربون، مما خلق صراعاً جديداً في الأوساط الغربية حول مستقبل البيئة وتداعيات تردي ثوابتها على الكائنات الحية، وهي قضية ذات أبعاد وأهمية عالمية تحولت، ربما بغير قصد من حملتها، إلى أجندة سياسية في معظم دول الغرب، وذلك للدور الذي تلعبه المؤسسات الأكاديمية، جامعات ومراكز أبحاث، في الحياة المجتمعية.
هناك دراسات أكاديمية مهمة صدرت مؤخراً عن جامعة كاليفورنيا في الولايات المتحدة تشير إلى أن مقابل كل مليون دولار يتحقق في الناتج الإجمالي العالمي تنبعث إلى الفضاء ما يقرب من خمسمئة طن من غاز ثاني أوكسيد الكربون، وفق معادلة كهذه نستنتج انبعاث تسعة وثلاثين مليار طن من هذا الغاز في العام 2020 عندما تحقق ناتج إجمالي عالمي بلغ وفق تقرير البنك الدولي خمسة وثمانين تريليون دولار، على الرغم من القيود التي فرضتها جائحة «كورونا» على الأنشطة الاقتصادية.
إنه رقم مخيف حقاً قد لا تسمح الآليات البيئية الطبيعية بالتعامل معه بما لا يحدث خللاً لا يمكن إصلاحه في التوازنات البيئية التي تضمن استمرارية الحياة على كوكب الأرض.
ولكن هل تُقنع الأرقام والتوصيات الصادرة عن مؤسسات علمية على درجة رفيعة من الرصانة صناع القرار السياسي بإعادة النظر بمواقفهم السلبية من الدعوات البيئية؟، وبكلمات تساؤلية أكثر صراحة هل ستلقى هذه الدعوات ما لقيت سابقاتها من تجاهل وإهمال أم سيتم الالتزام فعلاً بنصوص ما ورد في اتفاقية باريس لتصبح نافذة حقيقية للأمل؟