بقلم: هشام ملحم – النهاري العربي
الشرق اليوم- الاتفاق الأوّلي بين الولايات المتحدة وتركيا حول تحمّل أنقرة مسؤولية إدارة مطار كابول الدولي بعد انسحاب كل قوات حلف الناتو من أفغانستان، محفوف بالأخطار والمجازفات، ولا تزال تحيط به اسئلة كثيرة، خصوصاً تلك المتعلقة بشروط تركيا لقبول مثل هذه المسؤولية الجسيمة التي رفضتها فوراً حركة “طالبان”. ولكن المبادرة التركية التي نوقشت رسمياً للمرة الأولى، وإن بشكل عام، خلال لقاء الرئيس رجب طيب أردوغان بنظيره الأميركي جوزف بايدن في الشهر الماضي على هامش مؤتمر حلف الناتو في بروكسل، تعكس رغبة أردوغان القوية بإصلاح العلاقات مع ادارة الرئيس بايدن، بعدما تدهورت في السنوات الماضية، بسبب سياسات أردوغان الاستفزازية، ونظراً لمواقف بايدن النقدية من تركيا خلال حملته الانتخابية.
بعد قمة بروكسل بدأ المسؤولون السياسيون والعسكريون البارزون في البلدين سلسلة من الاجتماعات لبحث الشروط والمتطلبات اللوجستية والعسكرية والدبلوماسية المالية لهذه المهمة. وكان أردوغان قد قال عقب اجتماعه ببايدن إنه اذا كان الأميركيون يريدون بقاء تركيا في أفغانستان، فعليهم “تقديم الدعم الدبلوماسي واللوجستي والمالي” لضمان نجاح هذا الوجود. وقبل يومين أكد المسؤولون في أنقرة التوصل الى “اتفاق أطار” حول إدارة تركيا لمطار كابول، على أن تستمر المفاوضات بشأن التفاصيل، ورحب المسؤولون في واشنطن بالموقف التركي “البناء”.
وسارعت حركة “طالبان” إلى إدانة تركيا “لإطالتها احتلال بلادنا بالنيابة عن أميركا وبالتعاون معها”. وبعد أن قالت إنها ستعتبر القوات التركية التي ستبقى في افغانستان كقوات احتلال، حمّلتها تبعات هذا الاحتلال.
يوجد لتركيا حوالى 500 جندي في أفغانستان، يقومون منذ سنوات عديدة بإدارة القاعدة العسكرية الجوية الملحقة بمطار كابول الدولي، وتركيا هي الدولة الوحيدة في حلف الناتو التي لم تشارك قواتها العسكرية في أفغانستان بأي عمل عسكري ضد مقاتلي “طالبان”، كما أن القوات التركية لم تتعرض لأي هجوم من “طالبان”. ولتركيا علاقات جيدة مع الحكومة الأفغانية، كما أن قنوات الاتصال مفتوحة بين أنقرة وقادة حركة “طالبان”. ولتركيا أيضاً علاقات قديمة وقوية مع قوات “التحالف الشمالي” وتحديداً مع المارشال عبدالراشد دستم أحد أبرز قادة أقلية الأوزبك في شمال البلاد. ويعوّل أردوغان على هذه العلاقات، التي يمكن أن تضع تركيا في المستقبل في موقع يجعلها قادرة على التوسط بين مختلف القوى الأفغانية. وهو أعرب عن أمله بالتعاون مع باكستان لإدارة مطار كابول وحمايته. وتركيا كذلك هي من الدول التي تسلح باكستان.
حتى الآن ليس من الواضح ما اذا كانت تركيا ستقوم بمهمتها الجديدة – في حال التوصل الى اتفاق نهائي – تحت مظلة حلف الناتو، او تحت مظلة الأمم المتحدة وكأنها قوات حفظ سلام، كما ترغب أنقرة، أو ضمن اتفاق ثنائي بينها وبين كابول، كما ترغب الولايات المتحدة. وهذه المسألة هي من أبرز القضايا التي لا تزال قيد النقاش.
وعلى الرغم من العلاقات المتوترة بين تركيا ودول حلف الناتو، خصوصاً بعد شراء أنقرة منظومة صاروخية مضادة للصواريخ من صنع روسي، الا أن هذه الدول، مثلها مثل الولايات المتحدة، سوف ترحب بإدارة تركيا لمطار كابول لأنها تريد الاحتفاظ بحرية، وسرعة الوصول الى العاصمة الأفغانية بالجو، لضمان أمن وتمويل سفاراتها في العاصمة الأفغانية، بخاصة أن الإمدادت البرية غير مضمونة.
وقبل أقل من شهرين فاجأت أستراليا دول الناتو حين أعلنت عن إغلاق سفارتها في كابول. ويوم الثلثاء الماضي دعت فرنسا رعاياها في أفغانستان الى مغادرة البلاد، كما فعلت دول أخرى، في مؤشر يعكس تقويم الدول الغربية والحليفة القاتم للوضع الأمني في كابول في المستقبل المنظور.
المسؤولون الأتراك، ومن بينهم وزير الدفاع يتحدثون علناً عن أن بقاءهم العسكري في مطار كابول يتوقف على قبول الولايات المتحدة بشروطهم. وأبرز هذه الشروط التوصل الى حل يضمن حق تركيا بالاحتفاظ وبتشغيل منظومة الصواريخ المضادة للصواريخ من طراز “أس-400” الروسية الصنع، والتي أدى شراؤها الى فرض العقوبات ضد تركيا من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في حلف الناتو. هذه العقوبات شملت طرد تركيا من برنامج تطوير وصنع طائرة “أف-35” الأميركية والتي تعتبر الطائرة المقاتلة الأكثر تطوراً في العالم. وكان يفترض بأنقرة أن تشتري مئة طائرة، اضافة الى اتفاق يسمح لها بتجميع الطائرة في تركيا. المسؤولون الأميركيون يواصلون رفضهم لهذا الطلب التركي، ويحضّون أنقرة على التخلص من هذه المنظومة. ولكن هذه المواقف المتناقضة للطرفين، لا تعني استحالة التوصل الى صيغة تسوية، تشمل، إما وضع هذه الصواريخ في قاعدة تابعة لحلف الناتو، أو وضعها تحت إشراف دولة ثالثة مثل أذربيجان، وفقاً لبعض التسريبات الصحافية.
ولكن تدهور العلاقات بين واشنطن وعواصم حلف الناتو الأخرى من جهة وأنقرة من جهة أخرى له أسباب عديدة، من بينها الانتهاكات المتزايدة لحقوق الإنسان في تركيا خصوصاً في السنوات التي تلت محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في 2016 واتهامات أردوغان لأطراف أميركية بالضلوع به. وهناك أيضاً الخلافات حول التدخل التركي العسكري في شمال سوريا ضد التنظيمات الكردية التي تعاونت عسكرياً مع القوات الأميركية والغربية في حربها ضد تنظيم “داعش”، وهي القوى ذاتها التي تصنفها تركيا إرهابية. وتطالب تركيا الولايات المتحدة منذ سنوات بتسليمها الداعية الإسلامي فتح الله غولين، الذي يقيم في ولاية بنسلفانيا بتهمة التحريض ضد الحكومة التركية، وهو ما ترفضه السلطات الأميركية بسبب تعذر الأدلة ضده. وساهم قرار الرئيس بايدن في نيسان (أبريل) الماضي بالاعتراف للمرة الأولى بأن اعمال القتل الجماعي التي تعرض لها الأرمن خلال الحرب العالمية الاولى على أيدي العثمانيين وحلفائهم ترقى الى مستوى حرب الإبادة، في تأزيم العلاقات أكثر بين البلدين.
ولكن نقاط التماس هذه بين البلدين، لم تخفف من رغبة أردوغان بتحسين العلاقات مع إدارة بايدن، وتجاهل انتقادات الرئيس الأميركي القوية له خلال حملته الانتخابية، بما في ذلك عرض بقاء القوات التركية في مطار كابول وتوسيع مهماتها، على الرغم من أن هذه المهمة سوف تكون محفوفة بالمخاطر، وسوف تعرضه الى انتقادات من داخل تركيا. مصلحة أردوغان وبايدن في المستقبل المنظور تقضي بالتوصل الى اتفاق حول إدارة تركيا لمطار كابول بعد الانسحاب الأميركي، ولكن بايدن قد لا يستطيع قبول شرط أردوغان الرئيسي بشأن منظومة الصواريخ، لأن ذلك سيتعارض مع سياسة الناتو، كما أن هناك أصواتاً نافذة في الكونغرس من الحزبين سوف ترفض بشدة هذا الشرط التركي.
هل سيقبل أردوغان بطلب واشنطن وحلف الناتو، عدم تشغيل منظومة الصواريخ الروسية، اذا حصل على مساعدات اقتصادية وتخفيف للعقوبات لدعم الاقتصاد التركي الضعيف، مقابل دوره الجديد في أفغانستان؟ الأسابيع المقبلة سوف تجاوب على هذا السؤال المحوري. ما هو واضح حتى الآن من المفاوضات بين الطرفين، هو أن أردوغان يأمل بالعودة الى واشنطن عبر كابول.