بقلم: مرح البقاعي – العرب اللندنية
الشرق اليوم- “نقف إلى جانب الشعب الكوبي ودعوته الواضحة إلى الحرية والتحرّر من عقود القمع والمعاناة التي تعرض لها من قبل النظام الاستبدادي الكوبي… الشعب الكوبي يؤكد بشجاعة حقوقه الأساسية والعالمية ويجب احترام هذه الحقوق بما في ذلك الحق في الاحتجاج السلمي والحق في تقرير مستقبله بحرية”.
هذا بعض ما جاء في البيان الذي أصدره البيت الأبيض عشية اندلاع مظاهرات شعبية عارمة في شوارع هافانا لم تشهدها البلاد منذ عقود ضد الحكومة الشيوعية في البلاد.
الاحتجاجات الشعبية جاءت تعبيرا عن السخط الشعبي المتعاظم لتردي الأحوال الاقتصادية والمعيشية، ناهيك عن ضعف أداء الحكومة في تأمين الحماية اللازمة لمواطنيها من خطر جائحة كورونا، وافتقادهم وسائل الوقاية والاستطباب الكافية وغياب الاستعداد في المستشفيات بحال الإصابة.
يندرج رد الفعل الأميركي السريع على مظاهرات هافانا تحت يافطة حقوق الإنسان التي هي شعار عريض لإدارة الرئيس جو بايدن في التحرك نحو سياسات خارجية أكثر شدة في التعامل مع الحكومات التي لا تحترم الحقوق البشرية الأساس التي أقرها إعلان حقوق الإنسان العالمي.
فالقطيعة الدبلوماسية بين واشنطن وهافانا دامت لعقود خلت بسبب حكومة الرجل الأوحد كاسترو إلى أن قرر الرئيس الأسبق باراك أوباما، إعادة التمثيل الدبلوماسي للولايات المتحدة في كوبا على مستوى السفراء في العام 2014. إلا أن الرئيس السابق دونالد ترامب عاد وأغلق السفارة إثر حادث غريب في السفارة سلاحه قنابل صوتية انطلقت في مكاتبها وأدت إلى إصابة بعض أعضاء البعثة الأميركية بآلام مبرحة في الأذن والرأس.
الرئيس بايدن اليوم يتقدم على سلفه أوباما وسلفه ترامب. فهو لم يكتفِ بمراقبة الاحتجاجات الشعبية ومتابعة التقارير التي توفرها الدوائر السياسية في واشنطن عن طبيعة هذا التحرك الشعبي، بل نراه يدعم المتظاهرين بقوة في مطالبهم التي يراها محقة.
وبايدن الذي يحاول أن يطرق أبواب الدول التي تخضع لحكومات شمولية من باب حقوق الإنسان، يجد في النموذج الكوبي للحراك الشعبي طريقا لتحقيق هدفين: الأول هو كسب شعبية عدد هائل من المعارضين الكوبيين الذين لجأوا إلى الولايات المتحدة بأعداد كبيرة، حتى أن مدينة ميامي في فلوريدا تسمّى “هافانا الصغرى” نظرا إلى جاليتهم الكبيرة هناك.
هؤلاء الكوبيون المعارضون هم اليوم أميركيون ناخبون، ويمكن أن يؤمنوا لبايدن قاعدة شعبية وانتخابية واسعة في ولاية فلوريدا التي عرف عنها أنها الولاية التي تحدد الخاسر من الفائز في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وقد تحولت في انتخابات 2020 إلى ولاية جمهورية ومؤيدة لترامب وهو يعد العدّة ليأخذ بثأر خسارته وينافس بايدن على البيت الأبيض في العام 2024.
من جهة أخرى، فقد بنى الرئيس بايدن حملة وصوله إلى البيت الأبيض على درجات سلم “الديمقراطيات” بتجلياتها في الحريات العامة والانتخابات الشفافة والنزيهة والحوكمة الرشيدة واحترام حقوق المرأة والأقليات وفصل السلطات وسيادة القانون، وغيرها الكثير مما يشكل هرم الديمقراطية التي على رأسها الحقوق الإنسانية، ومن مصلحة بايدن أن يبدو للشعب الأميركي ملتزما بما وعد به وهو الدفع بالحريات وتحفيز الديمقراطية في العالم.
الرئيس الكوبي ميغيل دياز كانيل لم يقف صامتا حيال التصريح الرئاسي الأميركي، بل سارع إلى اتهام الولايات المتحدة بالمسؤولية الكاملة عن الحالة الاقتصادية التي وصلت إليها كوبا والتي أتت نتيجة للحصار الاقتصادي والعقوبات الأميركية المفروضة على الجزيرة.
أما حكومة كوبا العتيدة، فبادرت بالمواجهات الاستباقية حين قطعت اتصالات الإنترنت عبر الهواتف المحمولة في الجزيرة لمنع التواصل بين المتظاهرين وتفادي المزيد من التجمعات الاحتجاجية، بينما كان الآلاف من المحتجين يهتفون في مدينة سان أنطونيو على بعد 30 كيلومترا من العاصمة ومقر الرئاسة في هافانا “ارحلوا” و”تسقط الدكتاتورية”.
أعادت أحداث هافانا التي اندلعت في اليومين الأخيرين إلى ذاكرتي تلك الأيام الغابرة من بواكير الخروج الكبير في غير بلد عربي، من ثورة الحرية والكرامة في سوريا المسماة بثورة الياسمين نسبة إلى سلميتها في عهدها الأولي وبياض غاياتها كياسمين الشام، وثورة السيادة في لبنان المسماة بثورة الأرز حيث يعاني الشعب اللبناني معاناة معيشية موازية، ويفتقد كما الشعب الكوبي والسوري أبسط شروط العيش من الماء والغذاء والدواء وكذا التيار الكهربائي.
لا تملك الولايات المتحدة صاحبة الدستور الذي صيغ على أسس ومبادئ عالمية في الحق الإنساني بالحياة والسعادة واختيار المصير، إلا أن تقف – حكومة ومواطنين- إلى جانب الشعوب التي خرجت تطالب بحقوق هي شرط الوجود الإنساني روح الله على الأرض.
حكومة بايدن معنية اليوم أكثر من أي يوم مضى بالاصطفاف إلى الجانب المُضيء للتاريخ، ودعم حركات تحرر الشعوب التي تطالب بإنهاء حلقة التوتاليتاريا في بلادها والدخول في رحاب الديمقراطيات الحقة. فالولايات المتحدة دفعت أثمانا غالية للدفع بالتحولات السياسية نحو حكم الشعب والقانون، أصابت في مكان وأخطأت في أمكنة، لكنها لا تملك إلا أن تكون نموذجا محفّزا للمزيد من الزخم في العالم باتجاه الحريات التي هي ملك الشعب لا الدولة.
النموذج الكوبي للتحرّر من عائلة كاسترو بمشتقاتها وترسباتها في طريقه للتبلور على شاكلة الثورات المدنية السلمية التي أطلقها شباب سوريا ولبنان، وكذا إيران في ثورتها الخضراء. فهل تنجو ثورة الكوبيين ممن يترصّد لها ليئدها في مهدها، أو ليصادرها بحرفها عن مسارها في أحسن الأحوال؟
الأيام المقبلة ستحمل الكثير مما سيلفت أنظار العالم من مشاهد هافانا حقول التبغ، وهافانا الأغنية الغافية على شط المحيط، وهافانا الحلم بالحرية والعيش الكريم بلا طغاة.