بقلم: أسامة رمضاني – النهار العربي
الشرق اليوم – لم تواجه تونس في تاريخها وضعاً في مثل إحباط الوضع الحالي وقتامته. لم يعد من الممكن الفصل بين الأزمات، إذ تداخلت كلها تداخلاً فاقم تأثيرها في البلاد: أزمة صحية أخذت بعداً كارثياً نتيجة استشراء جائحة كورونا التي كادت تعصف بالمؤسسات الاستشفائية، انكماش اقتصادي زاد في حدّته انتهاء الموسم السياحي قبل أن يبدأ، ومأزق سياسي تراكمه خلافات لا تنتهي بين أقطاب السلطة.
قد يبدو المشهد الحالي تكراراً وترسيخاً للتجاذبات السياسية والمصاعب الاقتصادية والاجتماعية المتواصلة منذ سنوات. وقد تبدو الأزمة الصحية التي زادت الأوضاع تردياً مجرّد طارئ تواجهه تونس مثل كل بلدان العالم.
ولكن الأمور ليست بالضرورة كما قد تبدو. أظهرت التجارب التي مرت بها شعوب ودول أخرى، أن الأزمات إذا لم تعالج ولم يهتم أصحاب القرار بدرء تبعاتها فهي تتعقد وتتداخل. وهناك تراكمات تؤدي في نهاية المطاف إلى منعطفات ونقاط انكسار قد تغير مسار الحوادث بغير ما هو متوقع.
ما بلغته أزمة كورونا في تونس من تدهور استثنائي هو نتيجة طبيعية للظروف الموضوعية محلياً ودولياً، وكذلك للخطوات التي اتخذت منذ أشهر، أو هي لم تتخذ، في إدارة هذه الأزمة من الأطراف التونسية.
من المؤكد في الوقت الحالي أن الجائحة خرجت عن السيطرة بشكل اضطر الناطقة باسم وزارة الصحة للقول بانهيار المنظومة الصحية، بما يهدد “بغرق المركب” بحسب تصريحها. والواقع أن المنظومة، برجالها ونسائها، الساهرين على سير عملها، ما زالت صامدة تقاوم رغم الضغوط المخيفة التي تواجهها.
ولكن عدد الضحايا الذي تجاوز 16 ألف شخص (إن لم يكن أكثر)، بمعدل وفاة واحدة كل ست دقائق، هو مؤشر واضح الى استراتيجية فشلت، وأحدث فشلها رجة جماعية سوف تكون لها بلا شك ارتداداتها الاجتماعية والسياسية.
ومن الأكيد أن التساؤلات عن المسؤول عن الكارثة سوف تزداد تواتراً مع مر الأيام والشهور. ويتوقع الكثيرون أن تكون الانتخابات القادمة مناسبة لجرد حساب سياسي تدفع ثمنه الأطراف التي كانت لها مسؤولية ما في تعميق الانهيار الصحي.
في الواقع، لم يفاجأ إلا القليلون بعدم قدرة أصحاب القرار على التفاعل السريع والناجع مع خطر الجائحة التي كانت قادمة على عجل منذ شهور. كان ولا يزال هامش الخيال والقرار لدى الكثيرين منهم ضيقاً، مثلما كانت تصوراتهم ومبادراتهم محدودة في مجال إدارة الأزمة والتوقي من تداعياتها، سواء بصرف الاعتمادات اللازمة لترميم البنية الاستشفائية من حيث التجهيزات والموارد البشرية قبل فوات الأوان، أم بوضع الخطط الناجعة لاستجلاب التلقيحات. كانت النتيجة مثل درجة الاستعداد كارثية.
اضطر المواطنون بمساعدة من المجتمع المدني، في عديد الحالات، إلى محاولة الاعتماد على النفس، بدءاً باقتناء تجهيزات الأوكسجين المنزلية، مروراً بفتح مراكز أهلية (غير مرخص بها رسمياً) لتعهد مرضى كوفيد.
وعندما عجزت المنظومة الاستشفائية عن مواكبة الحالات وغابت الحلول المرتجلة، لم يبق عند الكثيرين إلا الدعاء.
وفي غمار الأزمة تغيرت الرؤى. أصبح التونسي أكثر وعياً بهشاشة بلاده وقلة إمكاناتها على الصعد كافة: بنية صحية مهتزة لا تفي بالحاجة، ومجتمع توسعت رقعة الفقر فيه نتيجة الانكماش الاقتصادي فلم يعد يحتمل لا حجراً صحياً ولا توقيفاً للعمل.
ومع تزايد الإحساس بهشاشة الأوضاع، لم يعد هناك من يتعفف عن طلب الإغاثة من الخارج. لم يعد ذلك شكلاً من أشكال “التسوّل” لا يليق بتونس. وأعاد الوضع إلى الأذهان ملامح المشهد في تونس السبعينات عندما اجتاحت البلاد فيضانات عارمة اضطرتها لطلب المعونة من الخارج.
زاد في الصدمة الجماعية المرتبطة بهذا الوضع المستحدث إحساس المواطنين بأن بلادهم أصبحت تتصدر أخطر البؤر الموبوءة في العالم. كان يكفيهم النظر كل صباح إلى خريطة انتشار الجائحة في العالم، بحسب منظمة الصحة العالمية، ليروا خريطة بلادهم مرسومة بالأحمر الداكن مثل عدد من البلدان القليلة التي بلغ فيها خطر الجائحة مستوى مرتفعاً. وزاد في الخوف من الوحدة وسط العاصفة الشعور العام بأن معظم الأشقاء والأصدقاء غير واعين بحاجة تونس للإغاثة العاجلة.
ولكن الوضع تغيّر خلال الأيام الأخيرة بوصول شحنات من المواد الطبية من المنطقة والعالم، حتى وإن كانت الإشادة بهذا الطرف المانح دون الآخر رهينة الميول السياسية والأيديولوجية.
في انعكاساتها على الساحة التونسية، لا تبدو الجائحة مجرد طارئ صحي عالمي من دون امتداد لبقية الملفات العالقة. وفشل السلطات في إدارة أزمة كوفيد يثير اليوم تساؤلات عن قدرتها على احتواء الأزمات الأخرى التي تواصل تدحرجها بصمت، وبخاصة منها الأزمة الاقتصادية.
وقد زادت المخاوف بهذا الصدد بعدما أعلنت مؤسسة التصنيف الائتماني “فيتش رايتنغ”، الأسبوع الماضي، أنها خفضت ترقيم تونس إلى “ب سلبي” مع آفاق سلبية.
وأشارت المؤسسة في تقريرها إلى أن “تشظي المشهد السياسي وتعمق المعارضة الاجتماعية” أعاقا تنفيذ الإصلاحات العميقة التي ما زالت محل تفاوض بين السلطات وصندوق النقد الدولي.
وفي ذلك إشارة إلى أن الإصلاحات الاقتصادية لا يمكن أن تؤجل إلى ما لا نهاية، حتى في ظل الخلافات السياسية والتحفظات النقابية عن أي إجراءات لرفع الدعم عن الأسعار أو لخفض المصاريف الحكومية وإعداد الموظفين.
وشكل البيان تذكيراً بأن تداعيات كورونا التي أرهقت الاقتصاديات الغربية ذاتها، ليست سبباً وجيهاً لعدم الانتباه لحالة الاقتصاد التونسي من وجهة نظر المؤسسات الدولية.
ولكن أخطر ما أشارت إليه “فيتش” هو أن تونس قد تحتاج مستقبلاً إلى التفاوض مع المانحين ضمن “نادي باريس” حول إعادة جدولة ديونها، في إطار الاتفاق مع صندوق النقد الدولي وأي مانحين أجانب.
ولجوء تونس إلى “نادي باريس” من أجل تأجيل ديونها ليس بعد أمراً محتوماً. ولكن الطريق إلى ذلك مرسوم بحسب “فيتش”، بخاصة أن البلاد ستواجه هذا الصيف استحقاقات مالية كبرى مرتبطة بسداد جانب من ديونها الخارجية.
وإن تجسّم مسار “نادي باريس” فسوف يفرض على البلاد إجراءات تقشفية قاسية وذات وطأة اجتماعية شديدة، إضافة إلى كونه سوف يبعث رسالة غير مطمئنة الى المانحين والممولين الأجانب بعدم قدرة السلطات على تسديد ديونها والإيفاء بتعهداتها المالية.
إصلاح الوضع الاقتصادي لا يمكن أن يتم بالطريقة التي عولجت بها الجائحة. لن يتم بترك الحبل على الغارب وتأجيل اتخاذ القرارات الصعبة أو بانتظار تدخلات من الخارج. وكما قال محافظ البنك المركزي التونسي مروان العباسي: “عدم اتخاذ القرارات له كلفته”.
فالإصلاحات الاقتصادية الصعبة التي لا تتم من الداخل وفي آجال معقولة تتحول في نهاية المطاف إلى مسار أكثر وعورة، يفرضه الخارج من دون اعتبار لدواعي السيادة ومقومات الاستقرار والسلم الاجتماعية. يصبح الأمر كذلك وإن كره السياسيون ومن لا زال يغار على استقلال بلاده.
وسوف يكون للقرار الاقتصادي (أو غيابه) تداعيات مصيرية بالنسبة إلى ملايين التونسيين، مثلما كان للإجراءات والاحتياطات المفقودة في خطة مواجهة كورونا.
صحيح أن الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية معقدة وقابلة للاشتعال. ولكن مهلة التفكير محدودة بالنسبة الى أصحاب القرار. وعندما يشتدّ الضغط من الخارج سرعان ما يصبح البقاء في المربع الأول مستحيلاً.