بقلم: د. منار الشوربجي – المصري اليوم
الشرق اليوم- نشرت مؤسسة “بيو” الأمريكية استطلاعًا لنتائجه تأثيراتها المستقبلية على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. فهي تؤكد ما ظل علماء السياسة يشيرون إليه منذ عقد على الأقل. فالأجيال الجديدة من اليهود الأمريكيين أقل ارتباطًا بإسرائيل بالمقارنة بالأجيال الأكبر.
فنشأة إسرائيل كان لها تأثيرها المباشر على اليهود الأمريكيين الذين لم يهاجروا إليها. فقد أدى الشعور بالذنب لدى بعضهم إلى تعويض إحجامهم عن الهجرة لإسرائيل بالدعم اللامحدود لها. ثم جاءت حرب 1973 التي انهزم فيها الجيش الإسرائيلي لتزيد من ذلك الدعم واعتبار أغلبية اليهود الأمريكيين أن دعم إسرائيل جزء لا يتجزأ من هويتهم.
لكن مع نهاية القرن العشرين، دخل على تلك الصورة تحولان مهمان. أولهما أن فجوة متزايدة نشأت بين اليهود الأمريكيين ولوبي إسرائيل. فأغلبية اليهود الأمريكيين ليبراليون ويعطون أصواتهم بواقع 70% على الأقل لصالح الحزب الديمقراطي، أما لوبي إسرائيل وعلى قمته لجنة الشؤون العامة الأمريكية- الإسرائيلية، المعروفة اختصارًا بـ«إيباك»، فقد ظلت تنحو يمينًا وتتخذ المواقف ذاتها التي تتخذها حكومات اليمين الإسرائيلي.
ثانيًا، وفي الوقت ذاته، كانت أمريكا على موعد مع جيل جديد من اليهود الأمريكيين لم يعاصر جريمة المحرقة، الهولوكوست، ولا حرب 1973، وإنما نشأ في وقت صارت فيه إسرائيل قوة نووية، وسلاحها يتفوق نوعيًا عن الدول العربية مجتمعة، بفضل سياسة الولايات المتحدة. وهذا الجيل وجد نفسه إزاء معضلة عليه فيها أن يختار بين دعم الصهيونية وحكومات إسرائيل اليمينية، كما ينادى لوبي إسرائيل، وبين رفض هذا الجيل لما ترتكبه إسرائيل من انتهاكات صارخة للقوانين والأعراف الدولية ولحقوق الفلسطينيين.
كما وجدت نسبة معتبرة من ذلك الجيل أن هناك تناقضًا جوهريًا بين محنة المحرقة، التي تعتبر الأجيال الأكبر دعم إسرائيل ضمانًا لعدم تكرارها، وبين معاملة إسرائيل للفلسطينيين. وقد اختار أغلب ذلك الجيل الاحتفاظ بهويتهم اليهودية ومعها رفضهم للانتهاكات الإسرائيلية. وكانت من أهم تجليات موقفهم هذا أنهم لا يتورعون عن انتقاد الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة علنًا، بعدما كانت المنظمات اليهودية الأمريكية قد أقنعت الأجيال الأكبر بعدم انتقاد إسرائيل إلا سرًا، مع دعمها علنًا دون قيد أو شرط. وقد صار الجيل الجديد يوجه انتقادات حادة وعلنية للوبي إسرائيل نفسه.
وهذا بالضبط ما أثبتته نتيجة استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة «بيو»، التي تحظى باحترام واسع. فبينما قال 39% من اليهود الأمريكيين من الفئة العمرية من 18- 29 عامًا أنهم يشعرون بقوة «بالانتماء للشعب اليهودي»، بفارق يقل 17 نقطة عن الأكبر سنًا، قال 35% فقط من تلك الفئة العمرية إن الاهتمام بإسرائيل أمر جوهري يتعلق بهويتهم، بفارق 17 نقطة عن الأكبر سنًا. وكان ذلك الفارق بين الأجيال يزيد على 19 نقطة عند الرد على سؤال حول «الارتباط عاطفيًا بإسرائيل». ولأن دعم إسرائيل تراه الأجيال الأكبر ضمانًا لعدم تكرار محنة المحرقة، فقد كان ذا دلالة مهمة أن فارقًا يصل إلى 23 نقطة يفصل جيل الشباب عن الجيل الأكبر عند تأييد عبارة تقول: «إن تذكر المحرقة يقع في الجوهر من الهوية اليهودية».
ومثل تلك التحولات من شأنها بلا شك أن تلعب دورًا مهمًا في تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية إزاء الشرق الأوسط مستقبلًا. لكن المفارقة هي أن «إيباك»، التي لم تعد تعبر بحال عن تلك الأجيال الشابة، لم تتحرك قيد أنملة نحوهم، إذ لاتزال تحتفظ بمواقفها الداعمة دون قيد أو شرط للحكومات اليمينية في إسرائيل.