بقلم: محمد الرميحي – النهار العربي
الشرق اليوم – المصلحة الأميركية تجعل الخروج من أفغانستان عملية طبيعية، كما هو الخروج من العراق، والمصلحة هنا هي ديناميات التفاعل في الساحة السياسية الأميركية التي وصلت الى حد أنها لا تتحمل طول المعارك وتعقيدها في بلاد بعيدة. وهذا الخروج أو الانسحاب يطرح على الأقل قضيتين كبيرتين في فضاء العلاقات الدولية وأيضاً الأمن العالمي، وبخاصة الإقليمي.
الأولى: قال الرئيس جو بايدن نحن لم نذهب الى أفغانستان من أجل العمل على (بناء الوطن الأفغاني) State Building، فهذا الأمر لم يكن منسجماً مع الأفكار الأولى التي طرحتها الإدارات الأميركية في السابق، كان الهدف هو تكرار ما حدث في كل من اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية (بناء الدولة) فلماذا نجح الغرب في بناء الدولة بقيادة أميركا في كل من اليابان وألمانيا وفشل فشلاً ذريعاً في كل من أفغانستان والعراق؟ أليس ذلك سؤالاً منطقياً يستحق التفكير في إجابة له؟ واضح أن الموضوع له علاقة بالتكوين الأولي لتلك المجتمعات، بمعنى أن اليابان وألمانيا كان فيهما (مجتمع دولة)، كان هناك إمبراطور يحكم اليابان وكل اليابانيين في طاعته مع وجود هيكل للدولة الوطنية، وألمانيا توحدت منذ زمن طويل قبل الحرب تحت قيادة واحدة وكانت فيها أيضاً دولة وإدارة مركزية. الفرق في كل من أفغانستان والعراق أنه في الحالتين لم تكمل الدولة بناء نفسها، فهناك في الغالب قبائل وطوائف وإثنيات مختلفة، فشكل الدولة لم ينضج ولم يكن يراد له أن ينضج.
الروح الوطنية جعلت بناء الدولة إو إعادة بنائها في كل من اليابان وألمانيا ممكناً، لم يكن سهلاً ولكن أصبح ممكناً، مع تواجد شبه دائم (أكثر من سبعين عاماً لقوات أميركية أو غيرها على الأرض). في كل من العراق وأفغانستان لم تكن هناك روح وطنية جامعة، هناك روح عشائرية تجمع بين بعض المكونات كما تفعل عكس الفعل باتجاه إضعاف الشعور الجماعي العابر لتلك القبائل والعشائر والإثنيات. المجتمعات التي لا تشعر بأنها مترابطة تحت قانون واحد أو لها أهداف وطنية مشتركة تتشرذم بسرعة إنْ رفع عنها سيف القوى القاهرة، هي فقط مجموعة قبائل أو طوائف قد تتحالف في وقت وقد تتحارب في وقت آخر، لا تشكل دولة لها استدامة، بخاصة أن وجدت لها الفرصة في الاستقلال وعدم وجود سلطة لها قوة الحسم، فسريعاً ما تنقسم على نفسها وتتشظى، بل قد يقود ذلك إلى حرب أهلية طويلة أو قصيرة بحسب التدخلات الخارجية أو وهن القوى المختلفة الداخلة في الصراع.
فطن بعض الكتاب العرب، ولكنهم قليلون، الى عدم وجود (الدولة) في معظم فضائنا العربي، ولم تعنَ الهياكل الإدارية الجديدة التي أقيمت بعد الحرب العالمية على بقايا التركة العثمانية في البلدان العربية أو أغلبها لتبنى تلك الدولة لأن القاعدة التي اعتمدتها السلط الحاكمة هي (كلما تشرذم المجتمع سهلت قيادته) ووضعت مكوناته ضد بعضها بعضاً في صراع منخفض الوتيرة أو أحياناً في صراع عالي الوتيرة، وتحت شعارات قد تكون بعيدة من التحقق، ولكنها تحقق الهدف (القول مثلاً بأنصاف الفقراء) أو القول (بحماية الطائفة) أو فريق المقاومة!، أو إقصاء المشكوك في ولائهم (ليس للدولة لأنها غير موجودة) ولكن لأهل الحكم.
أما القضية الثانية التي يثيرها الانسحاب فهي هشاشة الإعلان المكرر عن (حقوق الإنسان) وتعزيز القيم (الديموقراطية) التي قالت بها الإدارة الحالية، فترك أفغانستان للأفغانيين يعني في نهاية المطاف حكم “طالبان”، وهو حكم يطبق نوعاً من الإسلام المتشدد يجمع العشيرة ولكنه لا يكفي لخلق وطن. فلهؤلاء نظرة متخلفة وخارجة على التاريخ تجاه التعليم والمرأة والحريات، وكلها قضايا تقول الإدارة الأميركية الحالية إنها تدافع عنها الى درجة المخاطرة بعداء مع روسيا من أجل شخص واحد معارض! من المؤكد أن أفغانستان بهذا الحال لن تهدأ، فهناك حرب أهلية تلوح في الأفق وقد تطول وتأخذ معها مئات الآلاف من الأرواح، كما أن تلك الحرب سوف تفتح الباب واسعاً للتدخلات الإقليمية، وقد نشطت إيران منذ الآن في استثمار الانسحاب لمصلحتها وربما أيضا تشأ فروع لـ”داعش” و “القاعدة” بل حتى لـ “بوكو حرام” وقد تبقى أفغانستان بؤرة للاضطراب الإقليمي الشرس. لا تقوم في أفغانستان دولة ولكن عشائر مختلفة في ما بينها، ولنذكر كم عدد (أمراء الحرب) إبان الاحتلال السوفياتي لنعرف كم هي الرؤوس الطامحة لاستقلال نسبي تزرع المخدرات وتوزع الرصاص، وتحتضن المتشددين.
من الواضح أننا مقدمون على فلسفة إدارة الأزمات وليس حلّها، فليست هناك حلول في الأفق لكل من المسألة السورية أو اللبنانية أو العراقية أو اليمنية أو الإيرانية أو الأفغانية، نحن أمام سيناريو الصوملة المكررة بدرجات مختلفة وهي احتواء الصراع ما أمكن ولكن ليس المساهمة في حله، لأن أياً من القوى العالمية ليس لديها (المعدة) لمواجهة حقيقية، الافتراض أن ذلك الصراع أو الصراعات والتي قد تنشأ في العراق وأفغانستان يمكن (عزلها) محلياً ليس أكثر من خطأ كبير لأن الفوضى بالضرورة سوف تفيض على المنطقة وعلى العالم، المسألة مسألة وقت لا أكثر!