الرئيسية / مقالات رأي / تحت سلطة الطاعون

تحت سلطة الطاعون

بقلم: علي الصراف – العرب اللندنية

الشرق اليوم- صحيح أن إبراهيم رئيسي لم يُنتخب إلا بأقل من 4 في المئة من مجموع الناخبين في إيران، إلا أن تنصيب جلاد على رأس دولة تضم 80 مليون نسمة أمر لا بد أن يثير مشاعر صدمة عميقة ليس في قلوبهم وحدهم، وإنما في قلوب مئات الملايين ممن حولهم.

الكثير من التقديرات والتحليلات يمكن أن تُقدم لتفسير لماذا يحتاج مجرم مثل علي خامنئي أن يستعين بخدمات مجرم آخر للسيطرة على بلد لم يكف عن الانتفاض ضد فشله وتسلطه وأعمال عصاباته داخل إيران وخارجها. إلا أن أكثرها جلاء هو أن البلاد تقف على شفير هاوية لا أحد يعرف ما هو قرارها بعد، وأنه يريد أن يسيطر على عوامل الانهيار بالمزيد منها.

الإيرانيون، بقومياتهم المختلفة، شعب صبور. لقد عاشوا دهورا طويلة تحت أنظمة ظلم وطغيان، وتوارثوا صورا شتى من مظاهر الوحشية، وتلال الجماجم، منذ أن أجبرهم إسماعيل شاه الصفوي على أن يتنكروا للإسلام لكي يصبحوا “شيعة”، إلى يوم الناس هذا، حيث صار يتوجب عليهم أن يتنكروا لحقهم في الحياة، لصالح مشروع ثوري ينهض به رعاع وفاسدون ودجالون من أمثال قادة الحوثي في اليمن والحشد الشعبي في العراق وحزب الله في لبنان، والشبيحة في سوريا.

الانحطاط الذي يمثله هؤلاء صادم بحد ذاته. ليس لأنه ينزل باللغة إلى دركها الأسفل، بل لأنه ينزل بكل أنماط القيم والمفاهيم وأنظمة الإدارة والسياسة والاقتصاد إلى مصاف لا علاقة له بأي منطق.

هل جربت أن تجد نفسك وسط حفنة من الحثالة الذين يصخبون بمشاعر متضاربة ولا يتوقفون عن الهذيان ويلوحون ضدك بالسكاكين، وأنت تحاول أن تقنعهم بأن الصعلكة في دولة الهرج والمرج لا تفيدهم حتى هم أنفسهم؟

سوف تدرك من دون أدنى شك، أنك تهبط عليهم من عالم آخر. وأن كل ما قد تقوله غير مفهوم، وأن النتيجة تظل هي نفسها، من ناحية الخراب الذي لا يرونه خرابا، ومن ناحية الأذى والمرارة التي تصيب ملايين البشر من جراء تصرفاتهم الهوجاء، ومن جراء عجزهم عن رؤية المستنقع العفن الذي يسبحون فيه.

هم ليسوا لصوصا فقط. إنهم قتلة لا يرعوون شيئا من حياة البشر، ولا يقيمون لها قيمة، وكل شيء لديهم سواء.

هؤلاء هم جيش الولي الفقيه، في إيران وفي غيرها، ويقودهم الآن جلاد لا تشكل حياة البشر بالنسبة إليه أي شيء ذي معنى على الإطلاق.

هل دفع رئيسي بيديه عشرات الآلاف من شباب إيران إلى الموت تحت التعذيب أو على حبال المشانق؟

نعم، وماذا بعد؟ إنه يؤمن تماما بأن ما فعله لم يكن مجزرة. وهو يعيش أيامه مرتاح البال تماما. لا يلاحقه قلق، ولا تقض مضجعه أشباح تلك الأرواح التي أزهقت في العام 1988، ولا تلك الأرواح التي ظلت تُزهق على أيدي الحرس الثوري مع كل انتفاضة تندلع ضد النظام.

أحد أعجب المفارقات، هي أن وليه الفقيه، مباشرة بعد مجزرة العام 2019، التي أدت إلى مقتل نحو ألفي متظاهر في ليلة واحدة بطلب مباشر منه لسحق التظاهرات بأي ثمن، جلس مع حفنة من واضعي عمائم الخسّة على رؤوسهم، ليتباكى على الذين قتلهم سافاك النظام السابق في إحدى التظاهرات.

لم تسقط من جبينه قطرة حياء. وعمائم الخسّة لم تجر مقارنة بين المجزرتين. والحرس الثوري لم يلتفت أبدا إلى حقيقة أنه ارتكب ضد الإيرانيين أكثر بكثير مما ارتكب السافاك.

إنه شيء يشبه الطاعون الذي تعجز الإرادة البشرية عن مواجهته، لتتركه يفعل فعله حتى ينقضي الأمر، بواقع الآليات الطبيعية لكل بلاء.

حثالة الولي الفقيه في العراق لا يترددون في أن يثبتوا أنهم “سرسرية” فحسب. (لأن الوصف: “ملكيون أكثر من الملك”، كثير عليهم، من ناحية اللغة، والمعنى، والمقام). فهم يبعثون برسائل لإيران تقول “أنتم ما لكم علاقة. نحن نضرب القوات الأميركية بمحض انحطاطنا الخاص، وبمحض ما نملك من الحق في ممارسة الفوضى، ولأننا أتباع من قاع الدست في سفائل المسالك”.

رسالة تلو أخرى، أراد قادة الحشد الشعبي أن يقولوا إنهم “كولائيين” حتى العظم مستعدون لتحمل الضرب نيابة عن إيران، وأنهم مستعدون لكي يتسببوا في المزيد من الفوضى والمزيد من الإهانات للدولة التي يعيشون فيها، لمجرد أنهم كمثل تلك الحفنة من الحثالة التي لا تفهم شيئا، وهي تلوح بالسكاكين، إلا غرائزها.

هذا المستوى نفسه من الولائية هو الذي يدفع لبنان إلى الهاوية. وهو نفسه الذي يجعل جماعات الحوثي، يواصلون الحرب ويرفضون الحوار والتسوية. والكل يصخب بالشعارات ولا يتوقف عن الهذيان وسكاكينه تجز الرقاب بعد الرقاب.

لا حلول تنفع مع هذا الطاعون ولا خيارات ولا حوار ولا تسويات، ولا حتى أي لغة للتخاطب. لأنك إذ تنطق، سرعان ما سوف تشعر أنك كمن يهبط من كوكب آخر. وهم إذ ينطقون، فهم كمن يخرج من قاع العالم السفلي، ليؤكدوا أنهم من جنس “يأجوج ومأجوج” الذي ظل وجودهم لغزا.

فإذا شككت بذلك، فماذا تريد دليلا عليهم أكثر مما يفعلون؟

وطاعونهم ليس كأي طاعون. إنهم موت يسري في البلد لكي يهدم مقومات بقائه، ويسري في المجتمع لكي يمزّق أواصره ويهدم مقومات حياته، ويسري في النفوس لكي يهدم كل ما يتجاوز مشاعر النجاة بالنفس لتبقى ولو بأقذر وسائل الرذيلة والفساد، بما أنها صارت هي “القيم البديلة” السائدة.

هذا هو حال إيران. وهو ذاته حال العراق، ولبنان، واليمن، وسوريا. الطاعون هناك يسحق كل شيء ويقضي حتى على المشاعر، ويصيب بذلك النوع من الصدمة التي تجعل فمك فاغرا لا يقدر حتى على النطق بكلمة.

الجوع والمرض والفشل المؤسسي وانهيار منظومات الإدارة في لبنان قد تدفع الكثير ممن ينظرون إلى هذا البلد من الخارج إلى تقديم وسائل العون والإنقاذ والنجدة، إلا أن عزائمهم لا تُفهم، ولا يُصغى إليها، وتُقابل باستهتار وكأنها تتعلق ببلد آخر.

مقدمو المساعدات إنما ينظرون إلى “صورة” لبنان في أنفسهم، أو إلى تصورهم الخاص عنه. إلا أنها ليست الصورة التي يراها حزب الولي الفقيه. هناك لبنان آخر. وحتى ولو بدا وكأنه غارق في الجحيم، أو في الطاعون، فإن وجوده على هذه الصورة، ليس مما يعني أحدا، طالما أنه جزء من المشروع الثوري الذي يفرضه “سلاح المقاومة”.

رئيسي لم يأت رئيسا لكي يتخلى عن رعاعه. ولن يسمح لأي اتفاق بشأن الملف النووي بأن يضع حدا لبيئة الفساد والخراب والفوضى التي يسطون بها على بلدانهم. وحتى لو أجبرته الضغوط، فإن سلطة الطاعون سوف تبقى هي القوة التي تدفع هذه البلدان، وإيران نفسها، إلى أن يبقى كل منها في عالمه السفلي، حيث تنهار القيم والثقافة والتعليم ومنظومات الإدارة، بل وحتى لغة التخاطب نفسها.

ولا خلاص، حتى يقضي الطاعون أمره، بواقع آلياته الطبيعية فحسب.


شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …