الرئيسية / مقالات رأي / عين المشرق على الشرق

عين المشرق على الشرق

بقلم: حسن إسميك – النهار العربي 

الشرق اليوم – يجري الحديث عن حرب باردة قادمة، بين محورٍ غربيٍ تقوده الولايات المتحدة وآخر شرقي تمثله الصين أولاً ومعها روسيا، وتكثر التحليلات عن أهمية منطقة الشرق الأوسط في هذه “المعارك الباردة” المتوقعة، وعن ما تقوم به الصين وروسيا لملء أي فراغ تتركه الولايات المتحدة كلما قررت الانسحاب من المنطقة، أو الحد من نشاطاتها هناك، أو حتى تحييد الشرق الأوسط عن قائمة أولويات سياستها الخارجية.

في هذا السياق، تغفل معظم الدراسات وجهة النظر العربية، أو المنظور الذي يرى فيه العربُ “الآخرَ” بنمطيه؛ “الغربي (الأمريكي-الأوروبي)” و”الشرقي (الروسي الصيني)”، مع العلم أن هذا المنظور المتباين جداً، سيؤثر لا محالة على الخيارات العربية مستقبلاً، إذا ما شهد العالم حقاً حرباً باردة جديدة، وخاصة إذا جاءت أدوات هذه الحرب مختلفة وحداثية، تعتمد على المعرفة والتكنولوجيا ومنظومات الأفكار والثقافة إلى جانب السياسة والاقتصاد.

يشعر المواطن العربي أنه يعرف الغرب… يعرف تفاصيل دقيقة عن الحياة فيه، في حين ما يزال الشرق غامضاً مبهماً بالنسبة له، سواء بسبب التسويق الضعيف، أو التسويق المضاد، بل يكاد لا يعرف عن الشرق إلا الصورة التي يرسمها الغرب له، والتي كثيراً ما تخضع لاعتبارات السياسة والتنافس. دون أن ننسى أن للغرب باعاً أطول في استخدام علم “دراسات المناطق”، يضاف إليه تقاربٌ تاريخي مع الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط أعطى الغربيين مزيداً من القدرة على التواصل مع شعوبها، واستخدام القوة الناعمة في الأماكن المناسبة لرسم صورة مشرقة عن الغرب، تجعله “حلماً” في خيال كل عربي يتمنى العيش فيه، فيهاجر كثيرون إلى أوروبا وأميركا، ويتبنى آخرون نمط الحياة الغربي وهم في بلادهم.

تلعب عوامل كثيرة أدواراً مهمة في هذا الصدد، أولها اللغة، فاللغات الإنكليزية والفرنسية والإسبانية، وحتى الألمانية بدرجة أقل، كلها معروفة ومألوفة في العالم العربي، وإن بنسب متفاوتة، ويتعلم العربي بعضها في المدارس منذ نعومة أظفاره، فتخلق ألفة بينه وبين بلدانها وحضاراتها وثقافتها، في مقابل اللغتين الصينية والروسية اللتين مازالتا بعيدتين عن العربي، ويجد فيهما صعوبة كبيرة وقسوة في بعض الأحيان، فتختار قلة قليلة تعلمهما، وتقتصر عادة على الراغبين أو الحاصلين على فرصة للدراسة أو العمل هناك. 

وفي سياق متصل، تلعب الجامعات الغربية العريقة، وخاصة تلك التي تحرص الدول الغربية على افتتاح فروع لها في بلدان العرب، دوراً كبيراً في تحويل الغرب إلى هدف للدراسة والاختصاص، فتستقطب أصحاب العقول والمهارات والقدرات، ويتحول هؤلاء بطبيعة الحال إلى “مسوقين” للغرب نتيجة تبني أفكار البلاد التي علمتهم ونمّت قدراتهم. ناهيك عن “الانبهار” القديم بالحضارة الغربية، وقدراتها التكنولوجية المتقدمة وما تنتجه من سلع وأدوات عالية التقانة والجودة والاستدامة، مقابل المنتج الصيني الذي ارتبط في ذهن العربي بالسعر المنخفض وسوء التصنيع، أما المنتج الروسي فيكاد يغيب تماماً عن الأسواق العربية، مقابل المنتج الأميركي أو الأوروبي المميز وذي الجودة العالية والذي “يستحق ثمنه”… هذه الصورة النمطية المرتبطة بمنتجات بلد ما في حقل معين لا تلبث وتنسحب صورة عامة عن هذا البلد وعن كل ما يرتبط به في المجالات المختلفة! 

وتأتي الحريات العامة، حرية التعبير والتفكير والعقيدة، الحرية في الفن والثقافة والابتكار، تأتي هذه كلها لتضيف عناصر إيجابية أكثر على صورة الغرب المرغوبة في مخيال العربي الذي يعاني في معظم بلاده من الظلم والإقصاء والقمع والحرمان من أبسط حقوقه اليومية، فيجد أن الغرب سيحترم أفكاره ورؤاه وحقوقه، في مقابل الشرق الذي قد لا يختلف كثيراً في هذه الناحية عن أغلب النظم العربية الإيديولوجية والشمولية، خاصة وأن أغلب هذه الأنظمة قد بُنيت على غرار النموذج السوفييتي – الروسي، وهذا ما أثّر في أن تلعب “النظم السياسية الديمقراطية” الغربية دوراً في المكانة المميزة للسياسات الغربية عند العرب، إذ يتابع الشارع العربي بأغلبيته الانتخابات في الولايات المتحدة وبريطانيا وفي دول الاتحاد الأوروبي، ويعرف نظمها، ويستطيع تسمية رؤساء الدول والحكومات، وحتى الوزراء وأشهر السياسيين والمفكرين والباحثين والمحللين. في حين لا يكاد يعرف العرب عن روسيا إلا القليل، الأمر الذي يتضاءل أكثر في حالة الصين.

في المقابل لا تلعب كل العوامل في صالح الغرب، إذ لا يمكن إغفال خيبة أمل الشارع العربي من السياسات الخارجية الأميركية حيال عدة دول عربية وشرق أوسطية، خاصة في العقدين الأخيرين. ففي حين كان أمل فريق كبير من العرب أن يحمل الأميركيون معهم النظام والديمقراطية والحريات إلى المنطقة، جاءت النتائج على عكس المأمول، بل لقد أعاد التدخل الأميركي ذكريات سيئة لزمن الانتداب البريطاني أو الفرنسي، وتجاوزهما في حالات كثيرة حين سمح بظهور تنظيمات إرهابية في المنطقة لا تزال تزعزع استقرار عدة دول عربية، بالإضافة إلى أنه (أي التدخل الأميركي) سمح بتزايد قوة بعض الدول الإقليمية بشكل بات يهدد أمن الدول العربية، إيران مثال واضح يُحسب ضدَّ الغرب من ناحية، لكنه يُحسب في الوقت ذاته ضد روسيا والصين اللتين تصرّان مؤخراً على دعم طهران وترفضان التخلي عنها، رغم سجلها في انتهاك حقوق الإنسان في الداخل الإيراني، أو بسبب تدخلاتها السافرة في المنطقة، ونشرها مليشيات مسلحة تتغول على حكومات وجيوش دول عربية مختلفة. لذلك سيشكل تراجع أميركا عن دورها في المنطقة مزيداً من الخيبات لدى العرب، خاصة وأن حكوماتهم تتقارب مع بكين وموسكو، اللتين تبذلان جهوداً حثيثة في هذا الصدد.

تدرك القوتان العظميان الشرقيتان أهمية تقوية علاقاتهما مع دول المنطقة، فتركز الأولى على الاقتصاد والتقانة في حين تركز روسيا على العلاقات السياسة والدبلوماسية والوساطة في القضايا الخلافية، خاصة أن لا تاريخ يجمع بينهما وبين العرب ولا تراث ولا حتى إرث استعماري. لكن، تعمد هاتان الدولتان إلى التركيز على التعامل الرسمي مع الأنظمة الحاكمة والسلطات والحكومات في البلدان العربية، مقابل إهمال الشعوب والمجتمعات المدنية والنخب العربية السياسية والاقتصادية والإعلامية والفكرية والثقافية والأكاديمية، فالنموذج الشرقي بالحكم يشبه النظام العربي في الانعدام شبه التام للثقة بالمنظمات المدنية وغير الحكومية، ما يفقد القوتين الشرقيتين الأرضية الشعبية اللازمة لبناء علاقات وثيقة مع شعوب هذه الدول العربية.

في المقابل… يتعامل العرب مع الصين على أنها قوة اقتصادية، مستوردة للطاقة، ومصدرة للكثير من المنتجات، ورغم عدم بعدها الجغرافي الكبير، إلا أنهم يرونها بعيدة نائية في أقاصي الشرق، فترتبط النخب العربية في الخليج ومصر والأردن والعراق بأميركا وبريطانيا، وفي بلاد الشام وشمال أفريقيا بفرنسا، ويبتعدون بالعموم عن روسيا والصين، ويشعرون أن اهتمام الصين خصوصاً بالمنطقة يُعزى بأغلبه إلى الجغرافيا التي يشغلها الشرق الأوسط كونه عقدة ربط الطرق البرية والبحرية لمبادرة الحزام والطريق، ويؤثر على خطط الصين للتواصل مع أوراسيا، فوجود الصين كان ومازال مبنياً على مصالحها الاقتصادية فقط، ولا تحاول حتى أن تغلفه –كما يفعل الغرب– بتحقيق تطلعات الشعوب العربية.

ولأختم من حيث بدأت، في أي حرب باردة قادمة، أو في أي شكل من المنافسة على رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط وفي العالم، سيظل للغرب الأميركي والأوروبي مكانته التفضيلية لدى الشعوب العربية بالعموم، لكن هذه المكانة تتعرض لمنافسة “شرقية” قوية، وتحتاج إلى الكثير من العمل والجهد لترسيخها وتقويتها، وهذا يتطلب من الولايات المتحدة إعادة بناء الثقة بينها وبين دول الشرق الأوسط، وتقديم الدعم الواضح والمؤثر لحلفائها، ليكونوا قادرين على رفض المغريات القادمة من الشرق، ومتمكنين في الوقت نفسه من مواجهة التحديات والعمل على إنهاء النزاعات القائمة، وبسط السلام والاستقرار في المنطقة، وليلعبوا دور الحليف الفاعل والمؤثر في أي خارطة نفوذ عالمية مرسومة.. أو ستُرسم.

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …