الشرق اليوم- بعد نحو 42 عاماً على مشاركة الإيرانيين في ثورة شعبية واسعة، ها هي “الجمهورية” تتوارى، ويخفتُ صوت الشعب الذي اعتقد المواطنون أنه سيكون الميزان.. فما سبب ذلك؟
عندما انتصرت الثورة الإسلامية في إيران العام 1979، دار نقاش واسع حول مسمى النظام الجديد، هل يكون “الجمهورية الديمقراطية” أم “الجمهورية الإسلامية الديمقراطية”، لتنتصر في النهاية صيغة “الجمهورية الإسلامية” وتتوارى مفردة “الديمقراطية”، رغم وجود مؤيدين لها، إلا أن النفوذ الواسع للإسلاميين في الشارع العام، والشخصية الكارزمية لمؤسس الثورة آية الله الخميني، حسم الجدل الذي استمر طويلاً، حيث أكد الخميني “نحن دعاة جمهورية إسلامية، فالجمهورية تشكل الهيكل، والقالب للحكومة الإسلامية، وتعني أن محتوى ذلك القالب هي القوانين الإلهية”.
أي أن “الجمهورية” كانت هي الإطار العام لشكل الحكم، فيما المضمون سيكون معتمداً على “القوانين الإلهية”، والأخيرة ستستمد من “الشريعة الإسلامية”، كون غالبية الإيرانيين من المسلمين.
وفي هذا الصدد قال الخميني: إنه “نظراً إلى أن شعبنا شعب مسلم ويثق بنا، فمن هذه الناحية نحن نتوقع أن يصوت لصالح اقتراحنا”، مضيفاً: “إننا سنؤسس الجمهورية الإسلامية بناءً على استفتاء عام لآراء الشعب”.
التأييد الواسع!
بُعيد شهرين من انتصار الثورة الإيرانية، أجري استفتاء عام، شارك فيه نحو 98.2% ممن يحق لهم التصويت، وكانت النتيجة أن 99% صوتوا بـ”نعم” لإقامة “الجمهورية الإسلامية”، وفق الإحصاءات الرسمية.
التأييد الواسع النطاق كان متوقعاً، خصوصاً أن الحماسة كانت طاغية في أوساط الإيرانيين الذين التف جمهور عريض منهم بمختلف تشكيلاتهم الإسلامية والقومية واليسارية حول آية الله الخميني، حيث عبر الأخير عن ابتهاجه بنتيجة الاستفتاء، قائلاً “أبارك بإخلاص للشعب الإيراني العظيم ما حققه.. إنني أعلن في هذا اليوم المبارك، يوم إمامة الأمة ويوم الفتح والظفر للشعب، أعلن قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية”.
كان أنصار “الديمقراطية” يريدون أن يكون هنالك نظام حديث مشابه لما هو موجود في الدول الأوروبية، يقوم على “حاكمية الشعب”، الذي هو مصدر السلطات. إلا أن نفوذ رجال الدين عارض ذلك، واعتبر أن مصدر السلطات هو “الإسلام”، وأن دور الشعب هو دعم النظام وتحديد الشخصيات التي تعمل على تطبيق “الدستور” والإشراف على إنفاذ القوانين التي هي مستمدة من “إسلامية” الحُكم الجديد.
معارضو الديمقراطية
كان المناوئون لإضافة مصطلح “الديمقراطية” يتذرعون بأمرين: الأول، التعارض بين قيم الديمقراطية والقيم الإسلامية، وبالتالي فإنه لا مجال لأن يكون هنالك توازنٌ بين المفهومين، ولا بد من اختيار أحدهما، وبما أن الشعب في غالبيته مسلم، وقائد الثورة هو عالم دين مجتهد، فلا مناص من اختيار “إسلامية” المنهج.
الأمر الثاني، الادعاء بأن “الجمهورية” هي الهيكل الذي سيكفل “الحريات العامة” ويضمن المشاركة الشعبية ويجعل للمواطنين سلطات من خلال مؤسسات الدولة و”مجلس الشورى الإسلامي”، خصوصاً أن الخميني في البدايات أكد على أن “الانتخاب يكون بيد الشعب، ونوع الجمهورية هو ذات المفهوم الجمهوري المتداول في كلّ مكان”، إلا أنه شدد بوضوح أيضاً على أن “هذه الجمهورية تستند إلى دستور هو قانون الإسلام”.
إذاً، “إسلامية” النظام باتت المقيد الرئيس لأي تغيير مستقبلي، حيث يجب أن تتلاءم القوانين والسياسات مع “الإسلام” الذي هو هنا مجرد قراءة بشرية للدين، سوف يكون للفقهاء الذين أتوا مع الثورة اليد الطولى في تحديد ماهية هذه القراءة، سواء من خلال “مجلس صيانة الدستور” أو حتى مجالس أخرى لها نفوذ واسع فيها كـ”مجلس خبراء القيادة” و”مجلس تشخيص مصلحة النظام”.
“مجلس الشورى الإسلامي”، الذي يفترض أنه برلمان الشعب والمعبر عن رأيه، هو الآخر أنظمته وقوانينه التي يسُنها محكومة بـ”إسلامية” الحياة السياسية والتشريعية في إيران، ويمكن نقضها إذا ما تعارضت مع “الشريعة” أو وجد أنها تقوض ركناً من أركان إسلامية النظام أو توهنه!
مقبولية الشعب
هذه السيطرة لـ”سلطة رجال الدين” دفعت أفراداً من داخل النظام إلى محاولة تقديم تصور مختلف عن الفكرة المتشددة السائدة، وكان من ضمنهم الرئيس السابق محمد خاتمي، الذي عبر عن رؤية معاصرة لأنماط الحكم الحديثة التي يرى أنها الأصلح في إيران. وتقوم وجهة نظره على أن “مقبولية الشعب” هي الأساس، وبالتالي يشترط موافقة الشعب على فحوى أي نظام حكم، ولا يجوز فرض أي نمط محدد، حتى لو كان مستنداً لـ”الإسلام” إذا لم يوافق عليه الشعب، وأن لا شرعية لأي نظام ما لم يوافق عليه المواطنون.
خاتمي ذهب إلى أبعد من ذلك، معتبراً أنه حتى إمامة الأئمة الاثني عشر لدى المسلمين الشيعة، كان آل بيت النبي محمد يعتمدون فيها على قبول الناس ومدى رضاهم، وأنهم لم يفرضوا ذواتهم على جمهور المسلمين، بل اعتبروا قبول الناس لهم أساساً في تعاملهم.
وجهة النظر هذه لقيت تأييداً واسعاً لدى “التيار الإصلاحي” في إيران، وأيضاً عند شخصيات فلسفية ومفكرين بارزين، أمثال: عبد الكريم سروش، ومصطفى ملكيان، ومجتهد شبستري، حيث عمل الأخير على تطوير نظريته، التي ترى أن أفضل بيئة للفرد المؤمن لكي يمارس فيها إيمانه هي المجتمعات الديمقراطية الحرة.
رغم تنامي النقاش حتى في أوساط داخل الحوزة العلمية دفعت باتجاه إعطاء الشعب مساحة أكبر من تلك التي حددها الدستور، ومثال على ذلك كتابات ومحاضرات الشيخ محسن كديفر، وحتى سياسات الرئيس الإيراني السابق هاشمي رفسنجاني، إلا أن “النواة الثورية الصلبة” بقيت متماسكة، ويبدو أنها زادت تمكناً من مفاصل الدولة بعد فوز إبراهيم رئيسي بالانتخابات الرئاسية الأخيرة في إيران.
نظرية يزدي!
“وصول رئيسي من المفترض أن يكون نقطة النهاية للمساعي والجهود التي بذلها النظام ودولته العميقة لتوحيد مراكز القرار في قبضته، وأن التنوعات التي حدثت على مدى العقود الثلاثة الماضية في موقع رئاسة الجمهورية والسلطة التشريعية كان نتائج ظروف وأوضاع حالت دون الانتقال السريع إلى النتيجة النهائية، واستدعت من قوى النظام جهوداً مضاعفة في التصدي للانتفاضات السياسية والاجتماعية التي أخذت عناوين متعددة من علمانية أو ليبرالية أو يسارية إلى إصلاحية أو معتدلة، بالتالي إخراجها من دائرة التأثير السياسي والاجتماعي لصالح تعزيز المسار باتجاه تكريس سلطة ذات بعد ديني تعتمد الآليات الديمقراطية”، بحسب الباحث حسن فحص، في مقال له بعنوان “الرئيس الإيراني.. وجوه متعددة ومرشد حاكم”، نشره موقع “إندبندنت عربية” في 20 يونيو الماضي.
فحص في مقالته أشار إلى الجذر الفلسفي والفقهي الذي يستند له “التيار المتشدد” في رؤيته لآلية الحكم، وهو في ذلك وإن توسم شكلاً انتخابياً للمواطنين دور فيه عبر عمليات التصويت، إلا أنه في حقيقته يؤمن أن السلطات الحقيقية هي بيد “الولي الفقيه”، وهو المجتهدُ الذي اصطفاه الله، كونه امتداد لولاية الإمام المعصوم، وبالتالي، فإن دور “الانتخاب” هو مجردُ “الكشف” عن الإرادة الربانية، وليس إعطاء الشرعية لمقام “الولي الفقيه” الذي يستمد شرعيته من ارتباطه بالنيابة عن الإمام محمد بن الحسن المهدي المنتظر.
هذه الرؤية عرابها هو الراحل آية الله مصباح يزدي، وهو فقيه وفيلسوف إسلامي، من المؤيدين لنظرية “ولاية الفقيه”، ويعتبر “الأب الروحي” لـ”جبهة الصمود”، الذي كان أحد رموزها الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، قبل أن ينقلب عليه.
حسن فحص، وفي مقالته السابقة، أشار إلى وجهة نظر يزدي، قائلاً إن “عملية الانتخاب (تاتي) في السياق الذي نظر إليه الزعيم الروحي لفكرة الحكومة الإسلامية آية الله مصباح يزدي الذي حدد وظيفة العملية الانتخابية وصندوق الاقتراع بالكشف عن الشخص الذي يقع في دائرة اللطف الإلهي، ويعتبر ممثلاً لإرادة المرشد الأعلى وولي الفقيه وولي أمر المسلمين”.
من هنا، يُفهم سبب عدم اكتراث رموز “التيار المتشدد” بنسبة المشاركة المنخفضة في الانتخابات الرئاسية الإيرانية الأخيرة، كونهم يرون أن انتظام صفوفهم، وتوحيد جبهتهم، وجعل جميع المؤسسات ضمن إرادة الولي الفقيه آية الله علي خامنئي، أكثر أهمية من الإصغاء لصوت الشعب، لأن المعيار هو تطبيق “حكم الله” لا إرضاء رغبات البشر الذين هم بعيدون عن العصمة وقد يقعون في الخطأ وتتلاعب بهم وسائل الإعلام، بحسب وجهة نظر المتشددين.
إذاً، وبعد نحو 42 عاماً على ثورة شعبية عارمة في إيران، اعتقد جمهورها أنه ستكون لهم الكلمة العُليا، ها هي “الجمهورية” تتآكل يوماً تلو آخر، بُعيد أن رُفضت “الديمقراطية” منذ الوهلة الأولى، فيما “الإسلاموية” يرادُ تأصيلها، حتى لو كان ذلك عكس حركة التاريخ وإرادة جمهور عريض من الإيرانيين!
المصدر: العربية