بقلم: هشام ملحم – النهار العربي
الشرق اليوم– دافع الرئيس بايدن بقوة، يوم الجمعة، عن قراره سحب كل القوات الأميركية من أفغانستان في نهاية الشهر المقبل، رافضاً الطروحات القائلة بأن قوات حركة “طالبان” التي حققت انتصارات ميدانية كبيرة في شمال البلاد، سوف تصبح قريباً في وضع يسمح لها باحتلال العاصمة كابول، ومشدداً على أن القوات الأفغانية قادرة على صيانة الحكومة. بايدن كرر القول إن الولايات المتحدة قد حققت في السنوات الماضية أهدافها الرئيسية من غزو أفغانستان، أي القضاء على زعيم تنظيم “القاعدة” أسامة بن لادن، وهزيمة “القاعدة” كقوة قتالية. وذكّر بايدن الأميركيين بأن الغزو لم يكن بهدف إعادة بناء الدولة الأفغانية، وتعهد عدم إرسال أفراد جيل جديد للقتال في أفغانستان، مشيراً الى أن بعض الجنود الأميركيين الشباب حاربوا في أفغانستان بعدما حارب آباؤهم هناك قبل عشرين سنة.
خطاب بايدن كان واضحاً في مضمونه وقوياً في لهجته، لا بل إن أجوبته – الدفاعية – خلال فترة الأسئلة والأجوبة التي أعقبت الخطاب، لم تترك أي مجال للشك بأن موقفه نهائي وغير قابل لأي تعديل. وكان من اللافت أن بايدن أكد أن أجهزة الاستخبارات الأميركية لم تتوقع سقوط الحكومة الأفغانية خلال أشهر، كما رفض التقويم القائل بأن البلاد مقبلة على حرب أهلية شاملة مماثلة لتلك التي شهدتها أفغانستان في تسعينات القرن الماضي.
تأكيدات بايدن هذه فاجأت المحللين والسياسيين في واشنطن، بمن فيهم بعض المسؤولين الحاليين والسابقين من الذين أعربوا عن تحفظاتهم في حوارات خلفية مع الصحافيين والمراسلين الذين يغطون البيت الأبيض.
قبل ثلاثة أسابيع نشرت صحيفة “وال ستريت جورنال” تحقيقاً خاصاً بها ومبنياً على مصادر استخبارية جاء فيه، أن أجهزة الاستخبارات الأميركية وصلت الى تقويم جديد يقول إن الحكومة الأفغانية يمكن أن تنهار قريباً، وربما بعد ستة أشهر من الانسحاب العسكري الأميركي. هذا التقويم جاء في أعقاب سلسلة الانتصارات التي حققتها قوات “طالبان” في شمال البلاد قرب مدن مثل مزار الشريف وقندز، وهي مناطق بعيدة جغرافياً عن مراكز قوة “طالبان” التقليدية في جنوب البلاد، أي المناطق التي يسكنها الباشتون، الفئة الإثنية التي ينتمي اليها معظم قادة “طالبان”. قبل هذا التقويم الاستخباري الجديد، كان المحللون في أجهزة الاستخبارات يقولون إن القوات الحكومية يمكن أن تصمد في وجه قوات “طالبان”، إذا انهارت المفاوضات السياسية كلياً، لفترة قد تصل الى سنتين. هذا التقويم السابق، ذكّر المراقبين بسقوط سايغون، العاصمة السابقة لفيتنام عام 1975، أي بعد سنتين من انسحاب القوات الأميركية. الرئيس بايدن رفض باستياء واضح هذه المقارنة بين سقوط سايغون، واحتمال بروز سيناريو مماثل في كابول في المستقبل القريب وخلال وجوده في البيت الأبيض.
أيضاً رفض بايدن احتمال انزلاق أفغانستان مرة أخرى الى حرب أهلية أوسع، كان مفاجئاً لأنه عكس ربما عناده أكثر مما عكس تقويمه الموضوعي للحقائق على الأرض، والأهم من ذلك ما يقوله وما يتوقعه القادة العسكريون. وكان قائد القوات الأميركية في أفغانستان الجنرال أوستن ميلر قد حذر علناً، في تصريحات ومقابلات مع الصحافيين الأميركيين، من أنه إذا واصلت قوات “طالبان” تقدمها الميداني، وإذا لم تتوحد القوى السياسية المتناحرة في البلاد لمواجهتها، فإنه يتوقع عودة الحرب الأهلية. الجنرال أوستن وصف الوضع الراهن في البلاد بأنه “صعب للغاية”. وكان لافتاً أن الرئيس بايدن قال إنه “من المستبعد جداً” أن تسيطر أي حكومة موحدة على كل الأراضي الأفغانية، ما يعني ضمناً أنه ما لم تسيطر قوات “طالبان” على كل أراضي البلاد فإنها لن تحقق انتصاراً نهائياً.
الأسئلة التي وجهها بايدن الى الذين يطالبونه بالبقاء في أفغانستان لسنة أو أكثر، وما هو عدد الجنود الذين يمكن أن يرسلوهم الى أفغانستان، وما إذا كانوا مستعدين لإرسال شبابهم وشاباتهم أو أحفادهم، عكست قراءته الصحيحة للمزاج الشعبي في الولايات المتحدة. وأظهرت مختلف استطلاعات الرأي في السنوات والأشهر الماضية وجود أغلبية كبيرة من الأميركيين الذين يؤيدون الانسحاب الكامل من أفغانستان، كما أن نسبة الأميركيين الذين يتابعون أخبار أفغانستان ضئيلة للغاية.
الرئيس بايدن يدرك أيضاً أن المشرعين والسياسيين الجمهوريين، مع استثناءات قليلة مثل السناتور ليندزي غراهام، لن ينتقدوه، لأنهم إما وافقوا أو لم ينتقدوا الاتفاق الذي توصل اليه الرئيس السابق دونالد ترامب مع حركة “طالبان” في 2020، والذي يشمل، من جملة ما يشمل، سحب كل القوات الأميركية من أفغانستان بحلول شهر أيار (مايو) 2021. بايدن أعلن في نيسان (أبريل) الماضي أنه سيسحب كل القوات مع حلول الذكرى العشرين لهجمات أيلول (سبتمبر) الإرهابية في أيلول (سبتمبر) 2001. الاتفاق الذي توصل اليه ترامب شمل أيضاً إنهاء حركة “طالبان” علاقتها بتنظيم “القاعدة” الإرهابي، والدخول في مفاوضات جدية مع الحكومة الأفغانية. ولكن حركة “طالبان” لم تحقق أياً من هذه المطالب. بايدن تجاهل ذلك، لا بل تذرع بأنه يلتزم باتفاق توصل اليه رئيس أميركي سابق. عندما كان بايدن نائباً للرئيس الأسبق باراك أوباما، عارض الزيادة الكبيرة التي أمر بها أوباما لعديد القوات الأميركية في أفغانستان في 2011. وخلال حملته الانتخابية لم يخف المرشح بايدن رغبته بإنهاء أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة. وهذا ما يفعله الآن بعد انتخابه.
إصرار بايدن على الانسحاب الكامل والسريع، وفي غياب تفاهم سياسي بين حركة “طالبان” والحكومة الأفغانية، فاجأ المسؤولين في كابول، وفي الدول المحيطة بأفغانستان، كما فاجأ أيضاً الحلفاء في الناتو الذين أرسلوا قواتهم الى أفغانستان لتحارب مع الأميركيين لعقدين من الزمن. بايدن قال للصحافيين والأميركيين، يوم الجمعة، إن قراره يخدم مصلحة الأمن القومي، وإن بلاده لن تكون مسؤولة عن أي خسائر بشرية تتكبدها الحكومة في أفغانستان، وشدد في أكثر من مناسبة على أن القادة الأفغان هم المسؤولون عن مستقبل أفغانستان، وعن نوعية الحوكمة التي يرغبون بها.
قرار بايدن لا يخلو من المجازفات، لأن الانسحاب لا يشمل فقط القوات الأميركية وقوات حلف الناتو، بل أيضاً سحب آلاف التقنيين والخبراء المدنيين الأميركيين الذي تعاقدوا مع الحكومة الأميركية لتوفير الخدمات التقنية واللوجستية الهامة لسلاح الجو الأفغاني وصيانة طائراته القتالية والمروحية. ويمكن القول إن الانسحاب الأميركي سوف يخفف من الضغوط على حركة “طالبان” للدخول في أي مفاوضات جدية مع حكومة الرئيس أشرف غاني في كابول، بخاصة أنها تواصل تحقيق تقدمها الميداني. وفي حال انهيار السلطة في كابول وسقوط العاصمة في أيدي “طالبان”، كما حدث في تسعينات القرن الماضي، سوف يتعرض بايدن للانتقادات من الأفغان المهزومين ومن حلفاء واشنطن في آسيا والشرق الأوسط بأن واشنطن قد تخلت عن حلفائها الأفغان وتركتهم تحت رحمة أعدائهم.
قد لا يدفع بايدن ثمناً سياسياً باهظاً لسقوط كابول في أيدي “طالبان”، وبخاصة إذا استمر في تنفيذ بعض أبرز أولوياته الداخلية، واستمر الاقتصاد الأميركي بالتحسن. ولكن ما لا يريد أن يواجهه بايدن والأميركيون عموماً هو أن تحافظ حركة “طالبان” على علاقاتها بتنظيم “القاعدة”، أو أن تتسامح مع عودة تنظيمات إرهابية أخرى للعمل في أفغانستان، وأن تستأنف هذه التنظيمات الإرهابية تهديدها من جديد للولايات المتحدة من قواعدها في إمارة أفغانستان الإسلامية.