بقلم: د. يوسف مكي – صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – غداة انفضاض معارك الاستقلال، كان الإيقاع السياسي الذي يموج به الوطن العربي، مفعماً بآمال الخروج من تركة التخلف التي جثمت طويلاً على العرب وكرّستها الهيمنة العثمانية، والاحتلال الغربي في ما بعد. لكن تلك الآمال تهاوت سريعاً أمام مأساوية الواقع المرير ومواريث التخلف التي تركها المستعمر من ورائه، على امتداد الأرض العربية.
فبعد أكثر من سبعين عاماً منذ بدأت معظم الأقطار العربية الواحد تلو الآخر، في اكتساب الاستقلال السياسي، لازال الوطن العربي يختزن قنابل موقوتة، انفجر بعضها منذ بداية التسعينات من القرن الماضي في أعمال إرهاب قادتها تنظيمات إسلامية متطرفة، وبعضها الآخر، انفجر مع بداية العقد الثاني من هذا القرن في عواصف غضب لم تُبق ولم تذر. ولا يزال بعضها الآخر قابلاً للانفجار في أية لحظة، مهدداً الاستقرار السياسي والاجتماعي إن لم يتم التنبه له، واتخاذ الخطوات اللازمة لإبطاله قبل فوات الأوان.
تكمن مؤشرات الخلل في الاختلالات السكانية في الأقطار العربية، بما يسهم في ارتباك معدل النمو بين هذه البلدان، وفي ارتفاع نسبة العاطلين، بما يؤدي إلى ارتفاع نسبة الجريمة في البلدان ذات الكثافة السكانية العالية، ويؤثر سلباً في أمنها القومي.
ويتسبب غياب الأمن السياسي والاجتماعي، وندرة الثروة، في هجرة نسبة كبيرة من الكفاءات الأكاديمية، خاصة من الأقطار ذات الكثافة السكانية العالية. وقد تضاعف في السنوات الأخيرة عدد المهاجرين العرب إلى البلدان الصناعية المتقدمة، جراء تأزم الأوضاع السياسية، والحروب الأهلية، والتدخلات الدولية والإقليمية في تلك الحروب، كما في ليبيا وسوريا واليمن والعراق والسودان، حيث تجاوز عدد من هاجروا إلى خارج الوطن العربي في العقدين الذين انفرطا، ما يقدر بأكثر من خمسة وعشرين مليون فرد.
وقد تسببت تلك الهجرات في إلحاق ضرر كبير بالأقطار العربية، وتسببت في خسائر ومشكلات اقتصادية في البلدان التي هاجرت منها، تأتي في مقدمتها، التكلفة الحضارية التي تكبدتها الثروة القومية، والتي هي ملكية عامة للمجتمع.
ومع أن دخل الوطن العربي من ثرواته المتعددة بلغ خلال الثلاثة العقود الأخيرة من القرن العشرين، ما يقرب من 6 تريليونات دولار، فإن ما صرف منها في مشاريع البنية التحتية، إلى جانب بعض مشروعات الخدمات والإنتاج، لم يتجاوز 10% من تلك المبالغ.
وعلى الرغم من مرور ما يزيد على ثمانين عاماً على اكتشاف النفط العربي، فإن معظم المواد الخام المستخرجة ما زالت تصدر بصورة بترول خام. ويُستثنى من ذلك ما يقوم العرب بتكريره لتلبية احتياجات الاستخدام المحلي.
إن ظروف الاحتقان السياسي والاجتماعي قد أسهمت في انتشار عمليات العنف والتطرف. ولذلك تواجه بلدان عربية عديدة، أزمة شرعية دستورية، وقد فتحت هذه الثغرة الأبواب لعواصف السخط والغضب ونمو العنف، وتغول مشاريع التفتيت في عدد من البلدان العربية في المشرق والمغرب على السواء.
وكنا في حديث سابق، قد نوهنا بأهمية تحقيق التنسيق والتكامل العربيين في مجال الاقتصاد، وبأهمية فصل السياسة عن الاقتصاد، في ما يخص العلاقات البينية العربية. إن التداخل بين العلاقات السياسية والاقتصادية، قد شكل ولا يزال، قوة لاجمة لجل محاولات التنسيق والتعاون المثمر بين الحكومات العربية.
إن استمرار هذه الأزمات يعكس الحاجة إلى عقد اجتماعي عربي، يضع في الحسبان معالجتها بوضوح ومباشرة. وتأتي في المقدمة من هذه المشاكل، قضايا التعليم بكل تشعباته، وتأمين العلاج والمسكن، وقضايا التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والحد من البطالة، وأهمية الاعتراف والنص قانوناً على حقوق المرأة، والعدل الاجتماعي والحرية، وقبول الرأي والرأي الآخر، والسيادة والاستقلال، وقضايا الأقليات القومية التي تعيش في الوطن العربي، وتصبو إلى تثبيت هوياتها الثقافية ولغاتها وتحقيق الانعتاق.
كما ينبغي التنبّه إلى التحولات العالمية التي تجري من حولنا، ونُذُر عودة الحرب الباردة وسياسة المحاور، بما يضع البلدان الضعيفة بين المطارق والسنادين، ولن يكون لنا مخرج من تبعاتها إلا بالاعتماد على ذاتنا، وتقوية مؤسساتنا، والتكامل في ما بيننا.
وعلينا الإقرار بأن التطور العلمي أتاح لنا مجالات إيجابية في الرؤية والمعرفة، غير مسبوقة، ستكون في صالح مستقبلنا ومستقبل أجيالنا، إن أُحسن التصرف والاستثمار في منجزاتها. إنها حقاً قضايا صعبة، وتؤكد الحاجة إلى استراتيجية عربية مشتركة للنهوض، إن أردنا مكاناً في الحراك البشري الدائر من حولنا إلى الأمام.