بقلم: حسن إسميك – المصري اليوم
الشرق اليوم- لطالما كان الأزهر الشريف، الجامع والجامعة، علامةً فارقةً في التاريخ الإسلامي، الحديث والمعاصر، ومرجعية دينية بخطاب معتدل بنَّاء نابذٍ للتعصب والتفرقة والتطرف. قد لا يكون الأزهر «قبلةً» أو «محجاً» أو وجهةً للسياحة الدينية، لكنه بلا شك صرحٌ حضاري وعلمي إسلامي عظيم، ليس للعرب وحدهم إنما للمسلمين في شتى أنحاء العالم، لكن السؤال الأكبر هنا، هل يلعب الأزهر الشريف في الدين أو في السياسة اليوم، دوراً يتناسب مع تاريخه ومكانته والإجماع الكبير الذي يحظى به لدى المسلمين؟
تشير بعض المصادر المراجع إلى أن السبب الرئيس لإنشاء جامع الأزهر في بداية الأمر كان الدعوة إلى المذهب الشيعي، لكنه ما لبث، ونتيجة للصيرورة التاريخية والتغيرات السياسية التي حدثت في مصر صار أحد أعمدة «المذهب السني»، دون أن يقتصر التدريس في جامعته على هذا المذهب وحده، بل شمل مذاهب إسلامية أخرى مختلفة. أما جامعة الأزهر فهي المؤسسة الدينية العلمية الإسلامية الأكبر، وقد ارتبطت بجامعها الذي يعود تاريخه إلى العهد الفاطمي. حيث تم تخصيصه كمسجد رسمي اعتمدته الدولة منبراً لدعوتها الدينية ورمزاً لسيادتها الروحية. جامعة الأزهر من الأقدم عالمياً، ولا تفوقها قدماً إلا جامعة الزيتونة وجامعة القرويين، ومازالت حتى اليوم مقصداً ومنهلاً لطلاب العلم المهتمين بعلوم الدين أو بالعلوم العامة، لما فيها من مرونة وانفتاح وشمولية، تمتاز بها هذه المؤسسة دوناً عن غيرها من المؤسسات التعليمية الشرعية الأخرى. هذا الانفتاح يحيي الأمل بأنه مازال في أمتنا الإسلامية مؤسسات قادرة على إيجاد المزيد من التقارب بين المسلمين على اختلاف مشاربهم، وتحفيز التآخي بين الطوائف والمذاهب الإسلامية المختلفة واحترام خصوصية كلٍّ منها.
وللأسف الشديد، لم تحمل التفرقة لنا، مسلمين وعرباً، إلا المعاناة والأزمات وحتى الحروب، وتحولت لنقطة ضعف يجري استغلالها في مجالات تتجاوز الديني إلى السياسي والاجتماعي، ولا أظن أن مسلماً مؤمناً بحق يجد أي حكمة أو منطق في التفرقة بين صفوف المسلمين بسبب اختلاف في التفسير أو التأويل لهذا الدين الموحد والجامع بطبيعته. فالاختلاف لا يفسد للود قضية، إنما يغني ويثري التجارب الفكرية، ويبرز عظمة النص القرآني لما فيه من مرونة وفراسة لغوية تقتضي الكثير من التفكير المعمق والمتجدد. كما أن كلام الله سبحانه وتعالى لم ينزل علينا كي نتخاصم ونتفرق ونتشبث برؤية واحدة، إنما كي نُعمل العقل لنتقبل اختلافاتنا ونعزز وحدتنا، رغم الفروق الفردية، تحت راية واحدة. وقد أثبت الأزهر أنه المركز الأجدر بهذه المهمة، فقد كان اعتداله واضحاً في توجهاته على الأصعدة المختلفة الدينية أو الاجتماعية أو السياسية.
إضافة لما سبق، كانت العقلانية والاعتدال والانفتاح أيضاً رسالة الأزهر منذ تأسيسه، حيث لم يجد تنافراً بين الدين والعلم. بل لقد أكد منذ قرون عديدة على أهمية العلم، حين عقد فيه ابن خلدون –مؤسس علم الاجتماع– حلقاته العلمية، وفيه انقطع الحسن بن الهيثم –المؤسس الأول لعلم المناظر أو البصريات– للبحث والتأليف، ومن أروقة جامعته تخرج رؤساء دول وحكومات ووزراء وسفراء من جنسيات مختلفة ومتعددة. وما زالت جامعة الأزهر إلى يومنا هذا تواكب قدر المستطاع التطور والحضارة والتقدم، حيث تضم اليوم ست مستشفيات وأربع كليات للطب وثلاثاً لكل من الهندسة والصيدلة وطب الأسنان.
إذن لم يقتصر دور الأزهر الشريف على الجانب الديني فحسب، بل كان مصدر إشعاع علمي وحضاري، فقد حقق الأزهر في العصر المملوكي ازدهاراً كبيراً ومكانة مميزة كمركز تعليمي، حيث زوّدت مكتبته بأهم الكتب ونوادر والمخطوطات، حتى أصبحت واحدة من أكبر وأعظم مكتبات الشرق والعالم، لما حوته من كنوز ونفائس. وعلى الصعيد السياسي أيضاً لعب الأزهر دوراً حاسماً في مواجهة الحملة الفرنسية على مصر، وقاد شيوخه ثورتي القاهرة، الأولى 1798 والثانية 1800، وكان منبره منبر مصر كلها، واستمر التفاف المصريين حول الأزهر إلى أن رحل الفرنسيون عام 1801. ثم قاد علماء الأزهر ثورة 1805واختاروا محمد على والياً على مصر. ولا يمكن إغفال دور الأزهر في الثورة الشعبية ضد الاحتلال البريطاني لمصر 1919، والتي كان قائدها سعد زغلول من رجال الأزهر الذين تعلموا فيه وتخرجوا منه.
لكن أكثر ما يُؤسف له أن هذا الازدهار لم يكن سلسلةً مستمرةً، فقد تعطلت إقامة الخطبة في الأزهر نحو قرن من الزمن في عهد الدولة الأيوبية، هي الفترة الانتقالية من المذهب الشيعي إلى رحاب أهل السنة، كذلك شهد دوره تراجعاً عند ظهور «الدولة الحديثة» على يد محمد على عندما فُرض نموذج سلطوي اجتماعي جديد على الأمة الإسلامية، ليس للعلماء المسلمين المتنورين فيه الدور القيادي ذاته الذي كانوا يؤدونه في السابق.
كذلك أثرت العوامل الاقتصادية والمالية على دور الأزهر، فقد تراجع دعم المسلمين له بسبب الاستيلاء على أوقافه من طرف الحكومة في فترات معينة، وتدخل وزارة الأوقاف في بعض شؤونه، حدّ من ريادة الأزهر في تولي توجيه المسلمين عالمياً وجمعهم تحت راية إسلامية واحدة. على الرغم من أن تاريخه يدل بوضوح على أنه كان يسير في ذلك الاتجاه.
لكن هذا التراجع لا يعني أن نفقد الأمل أو الحافز بل على العكس، إن استعادة دور الأزهر الشريف هي مسؤولية المسلمين جميعاً دولاً وشعوباً وحكومات، لما سيكون له من فوائد على العالمين العربي والإسلامي من جهة، وعلى الإنسانية من جهة أخرى. ولا ضير هنا من الاستفادة من التجارب المماثلة، كتجربة الفاتيكان مثلاً، والذي استطاع، رغم تاريخ من الخلافات والحروب أيضاً، أن يبني لنفسه دوراً جامعاً وحيوياً، وأخذ يسخِّر مكانته كمرجعية دينية كاثوليكية لخدمة الكثير من القضايا الإنسانية العالمية، مستفيداً من موقعه الجغرافي والتاريخي المميز، وقدرته على التجدد، ومرونته ونزعته لمواكبة مستجدات العصر، والدعم الذي يتحصل عليه من المؤمنين ومن الدول والحكومات في كل العالم.
لقد أسس الفاتيكان شبكة دبلوماسية مميزة شكلت أداة مهمة لدعم حضوره الديني والثقافي والإنساني، وحرص كثير من الباباوات الذين تناقلوا كرسي الحبر الأعظم على لعب أدوار في المجالات السياسية والاقتصادية والإنسانية، وعلى شغل مناصب مؤثرة في بعض المنظمات الأوروبية والعالمية غير الربحية. كما أثبت الفاتيكان سعيه للتآخي بين الأديان والدول والمجتمعات. ولم يتوانَ يوماً عن التنديد بالحروب والنزاعات المحلية والدولية والإقليمية. ومن حسن الحظ أن الأزهر كان شريكاً له في واحدة من أهم الفعاليات العالمية في هذا الشأن، أقصد وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقع عليها البابا فرانسيس والإمام الطيب عام 2019 وبرعاية رسمية من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة.
ولا غرو أن يمتلك الأزهر الشريف، خصوصاً اليوم في زمن الإمام أحمد الطيب، كافة المقومات لاستعادة حضوره المهم عربياً وإسلامياً ودولياً على حد سواء. ومهما تطلب هذا الأمر من دعم الحكومات والمرجعيات الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وذلك باستعادة أوقافه، أو استحداث أوقاف جديدة، فهو قليل يقدم في سبيل السير على طريق توحيد المسلمين تحت راية الاعتدال والانفتاح، خاصة وأن هذا الهدف يستحق الاهتمام الأكبر في زمن التفرقة والشتات والعداء الذي تعيشه أمتنا الإسلامية في العقود الأخيرة الماضية.
ليس الأزهر الشريف أقل من الفاتيكان، ففي حين كانت الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى تحتكر المعارف وتحارب العلماء وتشعل الحروب الدينية، كان الأزهر يصنع أثراً حضارياً ريادياً محلياً وعالمياً، ويبدي كفاءة كبرى وقدرة على التأثير في مختلف القضايا، لذلك فإن استعادة الأزهر لهذا الدور ممكنة متى توافرت الإرادة والعمل بإخلاص، وهذه مسؤولية لا تقع على عاتق الأزهريين فحسب، أو مصر لوحدها، بل هي جماعية وعامة ينبغي أن يتحملها كل معنيّ بالأمر وقادر عليه، وبذلك يمكن للأزهر أن يقوم بدوره المنتظَر في إرساء أسس الاعتدال والتآخي والمحبة، وحمل لواء الانفتاح والوسطية مقابل التعصب والتكفير، والمضي قُدُماً في سبيل استعادة السلام في الشرق الأوسط.. والعالم.