بقلم: حازم الأمين – الحرة
الشرق اليوم- مضى عام على اغتيال الباحث العراقي هشام الهاشمي في بغداد. ليس هذا زمناً وجدانياً، ذاك أن الأحياء هم موضوع الفقد في إقليمنا البائس، وليس مغادرو هذه الدنيا. هم يفتقدوننا، ونحن الغائبون طالما أننا أحياء. العام الذي انقضى هو زمن سياسي جرى خلاله تكثيف للجريمة، فجُعلت ركناً أساسياً في المشهد العام، في بغداد خصوصاً، لكن أيضاً في بيروت ودمشق وصنعاء، لا بل والقاهرة ووصولاً إلى طرابلس الغرب. عام انقضى قُتل خلاله لقمان سليم في بيروت وإيهاب الوزني في النجف وغيرهما في البصرة، وامتد القتل إلى رام الله فطالت يد الأخوة نزار بنات.
لكن بغداد هي حجر الرحى في هذا القتل غير الرحيم. بغداد التي شهدت القتل المعلن والمصور لهشام الهاشمي في ذلك المساء القاتم. فمن يعرف هشام كان يشعر أن هذا الرجل كان يُخطط بنفسه لقصة قتله. اليوم يمكننا أن نستعيد أوقاتاً أمضيناها مع هشام كان خلالها يشرح لنا أن القتل كان مآلنا، وأن من يتوهم أنه ناجٍ انما يمارس نكراناً. والقتل هنا ليس بالضرورة رصاصات تفرغ في الرأس، فالقتل أيضاً هو نجاح القاتل في تعطيل “السياسي” الذي فيك، ونجاحه في جعلك كائناً فارغاً من السياسة، ومن همّ ما تحمله من قيم وأحلام وطموحات. وعلى هذا النحو يسهل ضمك إلى أحد فصائل الحشد الشعبي، لتصبح موضوعاً للفَقْد، وبهذا المعنى أيضاً يصبح القتل، عندما يُجنبك فَقْد نفسك، قتلاً رحيماً. فنحن الآن جنود في هذه الجيوش الجائرة. لا ندرك هذه الحقيقة، لكن طالما أننا أحياء، نحن جزء من هذا القطيع.
أن نخاطب هشام من مسافة عام على الجريمة، فهذا يتيح لنا أن يكون لدينا ما نقوله له، طالما أنه قال لنا كل شيء قبل أن يموت. العام الذي انقضى يا هشام شهد تثبيتاً لهزيمتنا التي لطالما أشرت أنت إليها. قاتلك لم ينتصر حين سدد بندقيته إلى رأسك، بل انتصر حين حول ساحات التظاهر في بغداد إلى معسكر لعروضه العسكرية. قاتلك غادر الحدود في أعقاب جريمته ثم عاد منها إلى مسرح الجريمة. التقطته الكاميرا مرة أخرى أثناء قتله إيهاب الوزني، وأشارت إليه أم إيهاب بيدها وقالت هذا قاتل ابني، وأشاح القضاة وجوههم عن وجه الأم.
لقد كان عام الجريمة يا هشام. بعد أيام من مقتلك في بغداد، لفح وجوهنا عصف انفجار هائل في بيروت. غبار كثيف عم المدينة أين منه غبار بغداد. وكان علينا أن نحصي القتلى لنعرف أي الجريمتين أشد من الأخرى، إلى أن قتلوا لقمان سليم فعرفنا أن الجريمة واحدة وأن القاتل يبدل أقنعة ويتجول برشاقة بين عواصمنا ومدننا ومرافئنا ومطاراتنا.
الناجون من بيننا يا هشام كائنات ضعيفة غير قابلة للقتل، والقاتل اذ يلفته عجزنا عن النظر في وجوه أطفالك، يدرك أن جريمته حققت مهمتها الأولى وما عليه بعد ذلك إلا أن يقدم لنا عرضاً للانضمام إلى فصيله وإلى حشده، هناك حيث لضعفنا وظيفة أخرى غير الخوف، وعنيت هنا وظيفة القبول ثم الخضوع ثم الطاعة، وما يلي ذلك من اطمئنان وراحة.
كل الذين لم يقتلوا يا هشام معرضون للانضمام الى الحشد الشعبي، ومن يقاومون هذا المصير هم في طريقهم إليك. هذا الكلام يشبهك كثيراً، أنت الذي لم تعبد طريقك بالأفكار الكبرى، بل بالمشاعر وبالانحيازات الطفيفة وبقناعات لا تبعد كثيراً عن الوقائع وعن يوميات أهل بلدك ومدينتك، ولا عن الانعطافات التي أجريتها في مسيرتك القصيرة في الحياة.
لا بأس عليك يا هشام حيث أنت اليوم. صحيح أننا لم نقبض على وجه القاتل، وصحيح أننا أعجز من أن نواجه أطفالك بحقيقتنا، إلا أننا يا صديقنا نعيش أحلك أيامنا. فالجريمة التي بدأت بقتلك أفضت إلى أن بغداد تحكمها الفصائل المسلحة وتعيش عتمة كاملة في ظل هذا الحر القاتل، وبيروت التي أحببت يا هشام والتي زرتها مودعاً قبل مقتلك، لم تعد هي نفسها وتعيش جريمتها على نحو ما تعيش بغداد الجريمة التي أودت بك.
ربما كان من المبتذل أن نقول إنك في مكان أفضل الآن طالما أننا لا نعرف أين أنت، لكننا يا هشام لسنا بخير، وعليك، حيث أنت، أن تقلق على أطفالك، فالقاتل ما زال قابعاً في محيط منزلك، هناك حيث كان في انتظارك في تلك الليلة المظلمة.