بقلم: جميل مطر – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- أما وقد احتفلت الصين بالعيد المئوي لميلاد الحزب الشيوعي الصيني وسط فرحة حقيقية، وتقدير عظيم من مئات الملايين من الصينيين الذين استفادوا من وجوده في الحكم، فلم يكن هناك بد من أن تجري المقارنات إن لم تكن بين ما تحقق لمصلحة الشعوب في ظل هذا النظام أو ذاك، فلتكن بين نجاعة النظم وقدرتها على الاستمرار والتأقلم. عشت فترات غير قصيرة في دول تطبّق قواعد وأيديولوجية النظم الديمقراطية، وعشت في الصين وقرأت، حتى الإدمان، عن الحزب الصيني وفلسفة الحكم في الصين، وهي المشتقة من أصول بعينها في الفكر الماركسي اللينيني والمستندة في الوقت نفسه، إلى تراث ثقافي وحضاري محلي، ومع ذلك، ورغم هذه الخلفية التي تصورت ببعض المبالغة أنها ضرورية، لن أتجاسر فأقود مقارنات.
تابعت باهتمام بعض تفاصيل اجتماعات قمم الدول الغربية وخرجت بانطباعات كتبت عن بعضها. بقي معي راسخاً انطباع، ولا أقول قناعة، بأن أوروبا رغم تطمينات الرئيس الأمريكي لا تزال غير مطمئنة إلى رسوخ الديمقراطية في أمريكا. تحدثت إلى أصدقاء في أوروبا، أحالوني إلى متخصصين يعتقدون أن الشرخ الذي أحدثه دونالد ترامب في البنية السياسية الأمريكية ما زال يتمدد، ليس في أمريكا فقط، ولكن يتمدد أيضاً في أوروبا. يعرفون أن ترامب، وهو خارج البيت الأبيض، لم يهدأ ولن يهدأ له بال.
يوماً بعد يوم يتأكد اقتناع ترامب بأنه الرئيس الشرعي للولايات المتحدة. وتأثر الرئيس السابق، كما يتأثر ملايين المشاهدين الأمريكيين، ببرامج تلفزيون الواقع. في تلفزيون الواقع تتحول في عقول الناس القصة الزائفة لتصبح حقيقة واقعة. وتشير دلائل بعينها إلى أن مؤلف القصة الزائفة يتأثر مثل بقية المشاهدين فتصبح قصته في نفسه حقيقة واقعة. بعض هذه البرامج كتب ترامب قصتها وأنتجها وأخرجها وقام بالتمثيل فيها.
والأخطر من وجهة نظر أصدقاء ومتخصصين أوروبيين، هو تعامل الرئيس السابق ترامب مع حزبه، أي مع حزب الجمهوريين. قبل الاستطراد يجدر أن أذكر بأن ترامب لم يكن على وفاق مع هذا الحزب وبأنه لم يحترم قياداته حتى خلال ترشحه للرئاسة. هو الآن يهددهم باستبدالهم بأنصار من الذين ينفذون أوامره ويؤمنون بمعتقداته عن المجتمع الأمريكي ومستقبل أمريكا. وأكثرهم صاروا يثقون بقدرته وهو خارج السلطة السياسية على حرمانهم في الانتخابات القادمة من تجديد احتلالهم لمقاعدهم في المجلسين. وتقول المعلومات أن رئيس الأقلية في مجلس الشيوخ السيناتور ميتش ماكونيل، عاد عن تمرده واحتجاجه على دور الرئيس السابق ترامب في تحريك فتنة السادس من يناير، واقتحام الكابيتول، عندما وصله تهديد ترامب بحرمانه من فرص الفوز بالتمديد، وهكذا وصلت الرسالة إلى جميع أعضاء الحزب في الكونجرس بمجلسيه. ووصل تهديد مماثل إلى كل قواعد الحزب في أمريكا ولعله التهديد الذي كان له التأثير الأكبر. هنا هدد ترامب بأنه إن لم يحظ بدعم الحزب الجمهوري فسوف ينشئ حزباً ثالثاً ينافس به الديمقراطيين والجمهوريين معاً.
وفي كثير من المجتمعات، بما فيها مجتمعاتنا العربية، انحسر نفوذ النخبة وتراجع موقعها في تراتيب السلطة وفي صنع القرار. هناك سبب وربما أكثر من سبب، وهناك نتيجة أو عاقبة، وربما أكثر من واحدة. واتفق مع الرأي القائل إن النخبة فقدت أكثر نفوذها عندما فقدت أساس شرعيتها في النظام السياسي، أقصد بالأساس احتكارها للمعلومات، وهذا فقدته عندما انتقلت حيازة المعلومات إلى مواقع جديدة مفتوحة لكل الناس..
ومن علامات سقوط النظام الديمقراطي استخدام المسؤولين السياسيين لغة السب وتوجيه الشتائم واختيارهم الكلمات البذيئة وخطابات إذلال الخصوم والمعارضين، حينذاك نكون أمام مشهد تظهر فيه الدولة تفترس صغارها، وفي الوقت نفسه تستعجل سقوط الديمقراطية. هذا بالضبط ما فعله ترامب، وأظن أنه سوف يعيد ما فعله لو عاد واستلم السلطة. المشكلة هنا سواء حدث الأمر في أمريكا أو في دولة، أخرى تكمن في حقيقة أن الرئيس الأعلى في تراتيب السلطة السياسية تعمّد أن يختصر المسافة التي يجب أن تفصل بينه وبين الجماهير. هذه المسافة ضرورية للغاية في الديمقراطية، كما في نظم أخرى. بحسابات الديمقراطية أخطأ ترامب وهو الآن يكرر الخطأ بعودته إلى الأسلوب نفسه أثناء إلقاء خطابه في مؤتمر من المؤتمرات التي أطلق أولها قبل أيام معدودة.
هل يفلح الرئيس جو بايدين في مد عمر النظام الديمقراطي في الولايات المتحدة؟ هذا السؤال مصحوب بالقلق هو الآن مطروح في أوروبا، بخاصة في الدول التي ستجري فيها انتخابات نيابية ورئاسية خلال الأشهر القليلة المقبلة. ولن نمل من القول إن المزاج الأوروبي، ربما باستثناء دول قليلة، لا يزال غير مستعد للدخول في عملية اختيارات جادة بديلة للديمقراطية. والغريب أن هذا المزاج لا يزال في الوقت نفسه وفي أغلبية المواقع غير واثق من تحقيق النصر السياسي في مواجهة طويلة وشاقة جداً مع الصين وروسيا، بل وحتى مع كل منهما على حدة.
فاتني أن أنقل ما يدور من نقاشات في أوروبا حول تلميحات الرئيس بايدين ومساعديه عن رغبة واشنطن الاستعانة بالدول الغربية الحليفة للتوجه جماعة إلى الشرق الأقصى في مسعى جديد لفرض حصار على الصين، ومشاريع توسعها الأيديولوجي في منطقة الاندو باسيفيك. سمعت أن هناك في تلك النقاشات خرج من يشكك في احتمالات قبول أوروبا تسليم قيادها لأمريكا غير الواثقة من قدرتها الذاتية على حماية نظامها الديمقراطي.