الشرق اليوم– نشر مركز STRATEGIECS للدراسات والأبحاث، مقالاً يسعى من خلاله إلى تسليط الضوء على مستقبل السياسة الخارجية الإيرانية في عهد الرئيس الإيراني الجديد، إبراهيم رئيسي، بعد الأخذ بعين الاعتبار العوامل التي تتحكم بالمشهد السياسي الإيراني الخارجي وتفاعلاته مع الشأن الداخلي من جهة ومع توزيع القوة إقليمياً ودولياً من جهة أخرى.
كما كان متوقعاً، فاز المرشح المحافظ إبراهيم رئيسي بالانتخابات الرئاسية الإيرانية التي جرت في 18 يونيو 2021 بأغلبية كبيرة وصلت إلى 62٪، وبهذا اتسقت المؤسسات التشريعية والتنفيذية الإيرانية في الخيارات السياسية الداخلية والخارجية، باعتبار أن التيار الأصولي يشغل 221 مقعداً من أصل 290 في مجلس الشورى بعد الانتخابات البرلمانية في فبراير 2020، وبحكم الوزن الإقليمي لطهران ونفوذها في العديد من القضايا الإقليمية، من المتوقع أن يكون هناك تعامل أكثر تشدداً مع الملفات الخارجية وبالأخص في البلدان التي يُعد النفوذ الإيراني فيها جزءاً من المشكلات السياسية والأمنية.
رئيسي المقرَّب من المرشد الأعلى علي خامنئي ومن مؤسسة الحرس الثوري، أشار في أول ظهور إعلامي له في 21 يونيو 2021 بعد فوزه في الانتخابات إلى أن حكومته ستُتابع المفاوضات مع الأطراف المعنية في فيينا إلا أنها لن ترهن مصير البلاد بها، بمعنى أن طهران مهتمة بالتوصل إلى اتفاق نووي لكن ليس إلى الحد الذي يجعلها تبني سياستها الخارجية بشكل يهدف إلى ذلك فقط، حيث يرى رئيسي أن الولايات المتحدة هي من انسحبت من الاتفاق عام 2018 وليس إيران وبالتالي هي من يترتب عليها أن تبذل الجهد لكي تعود إليه أو أن تتوصل إلى صيغة جديدة.
هذه الصيغة النديّة تختلف عمّا كان يظهر على أنه تعويل كبير من قبل حكومة الرئيس المنتهية ولايته، حسن روحاني، على العودة إلى الاتفاق والبحث في إمكانية إعادة العلاقات مع العالم الغربي على جميع الأصعدة، لكن وبشكل عام توجهت السياسة الخارجية الإيرانية نحو التصلب تجاه الغرب بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق حيث فقدت حكومة روحاني المعتدلة ثقلها الشعبي، وتَشجَّعت للتوجه شرقاً نحو شراكة استراتيجية شاملة مع الصين لربع قرن، وهذا ما اتفق عليه الطرفان في 27 مارس 2021، إذ تعهد الجانب الصيني بضخ 400 مليار دولار في مختلف قطاعات الاقتصاد الإيراني على مدار 25 عاماً بالإضافة إلى التعاون العسكري والاستخباراتي.
وعليه؛ من الممكن القول إن التعويل الإيراني على العلاقة مع الدول الغربية لحل المشكلات الاقتصادية الداخلية، قد انخفض كثيراً؛ وهنا يمكن فهم فوز رئيسي في الانتخابات الرئاسية والأصوليين بشكل عام في انتخابات مجلس الشورى كتكليل لسياق إعادة توجيه السياسة الخارجية الذي بدأ في عهد الرئيس السابق، حسن روحاني.
إن تدفق رؤوس الأموال إلى إيران في حال تم بعد التوصل إلى اتفاق نووي، قد لا يكون في إطار خصخصة المؤسسات الاقتصادية كما كان الوضع منذ عهد الرئيس الإيراني الأسبق، علي أكبر هاشمي رفسنجاني، حيث إن السياسة الاقتصادية التي يتبناها رئيسي تدعو إلى المساواة في توزيع الثروات الاجتماعية، ناهيك عن أن التوجهات الاقتصادية الإيرانية ستكون خلال المرحلة القادمة موضعَ نقاش مع الشركاء الصينيين في مختلف المجالات، ذلك بعد أن أدركت النخبة الحاكمة في إيران – التي تظهر إحدى تمثلاتها المؤسسية في مجلس الأمن القومي الذي يضم مندوبين من المؤسستين القضائية والتشريعية إلى جانب مؤسسة الرئاسة – أنه لن يتوفر لها سند دولي اقتصادياً وسياسياً أفضل من الصين التي تنخرط في نزاع دولي متصاعد مع العواصم الغربية وبالأخص واشنطن حول نفوذها متسارع النمو في العالم.
بغض النظر عن مناقشة مدى ديمقراطية الآليات الانتخابية الإيرانية، فإن إبراهيم رئيسي يمثل اليمين التقليدي في إيران الذي يتبنى تصوراً معادياً للولايات المتحدة التزاماً بقيم الثورة الإيرانية، وبالتالي التوصل إلى اتفاق نووي سيكون عبارة عن سقف للعلاقة بين واشنطن وطهران وليس بداية لها، كما أن رئيسي سيُركز على “تمتين” الجبهة الداخلية ومكافحة الفساد بحسب ما جاء في برنامجه الانتخابي، وهذه الأخيرة بالنسبة لرئيسي لا تعني فقط القضاء على التعاملات المالية والإدارية غير القانونية فحسب، وإنما يمتد ذلك إلى استبعاد الشخصيات التي تتبنى معتقدات غير متسقة مع روح هذه الثورة، وهذا ما قام به عند تم تعيينه رئيساً للسلطة القضائية الإيرانية بعد عام 2017.
وسيكون أمام رئيسي تحدي أمام المجتمع الإيراني لتنفيذ وعوده بالإصلاح المؤسساتي، في ظل وجود تسريبات عن أن هناك مؤسسات حساسة في إيران مخترقة بشكل كبير من قبل جهاز الموساد الإسرائيلي منذ عشر سنوات، بحسب تصريحات في 29 يونيو الماضي كان قد أدلى بها علي يونسي وزير الاستخبارات والأمن القومي الأسبق في حكومة الرئيس الأسبق، محمد خاتمي، بل وأضاف أيضاً أن حجم الاختراق الاستخباراتي الإسرائيلي يجعل المسؤولين الإيرانيين يخافون على أرواحهم، وقبل هذا التصريح؛ كان هناك تصريحات في منتصف يونيو الماضي للرئيس الأسبق، محمود أحمدي نجاد – الذي استبعده مجلس صيانة الدستور من السباق الرئاسي الأخير – مفادها أن “مسؤول مكافحة التجسس الإسرائيلي في وزارة الاستخبارات الإيرانية كان عميلاً لتل أبيب” وهذا ما أثار ضجة داخل إيران وخارجها، خاصة في ظل اتهامها لتل أبيب بحوادث اغتيال العلماء والتي كان من أبرزها اغتيال العالم النووي محسن فخري زاده في نوفمبر 2020، وما سبقه من تفجير مركز إنتاج أجهزة الطرد المركزي في منشأة نطنز النووية في يوليو من العام نفسه.
إن إمكانية إقدام رئيسي على “تطهير” مؤسسات الدول من أي عناصر مشبوهة بهدف خلق اتساق عام بين مختلف فروع الدولة الأمنية منها والعسكرية والعمل الدؤوب على مكافحة “التجسس” الإسرائيلي، سيكون من شأنه رفع حدة التوتر في الإقليم، وسيُعقّد من خطط عمليات المتابعة الاستخباراتية الغربية أو الإسرائيلية للمشروع النووي، وبالتالي قد تقل الدراية الإسرائيلية بتطورات البرنامج النووي الإيراني، مما سيفتح البابَ أمام أعمال عسكرية مباشرة بين البلدين أو غير مباشرة ضد المصالح الإيرانية في المنطقة.
أما بالنسبة لدول الجوار، فلم يختلف خطاب الرئيس الجديد عن سابقيه، حيث أبدى رئيسي استعداده لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع السعودية شريطة أن تنتهي الحرب في اليمن، وبالتالي رؤية طهران تجاه دول المنطقة والسعودية على وجه الخصوص ستكون مشروطة بشكل مسبق بمراعاة مصالحها الإقليمية، في مقابل إقامة علاقات دبلوماسية وضبط التنظيمات المسلحة الموالية لها في كل من اليمن وسوريا والعراق ولبنان.
لكن الولايات المتحدة في عهد ترامب ومن بعده بايدن لا تبارك المسعى الإيراني لتطبيع العلاقات مع دول الجوار، وأكبر دليل على ذلك هو الاستهداف المستمر للقواعد العسكرية الإيرانية أو للمقاتلين الإيرانيين أو من يواليهم في المنطقة، وكان آخر هذه العمليات ما جرى في 27 يونيو الماضي عندما أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية عن أنها استهدفت بطائرات مسيرة منشآت لفصائل تابعة لإيران في كل من العراق وسوريا، تبيَّن فيما بعد أنها مُدارة من قبل الحشد الشعبي العراقي، ويُعتبر هذا الاستهداف هو الثاني من نوعه في عهد إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، بعد الهجمات الأمريكية المحدودة التي جرى تنفيذها على الأراضي السورية في شباط الماضي.
إن السلوك العسكري الأمريكي لا يساعد إيران في إقامة علاقات هادئة مع دول الجوار، لأنها ستكون مضطرة إلى الرد بشكل مباشر أو عبر أذرعها في المنطقة، وهذا ما لا يُعجب الدول الخليجية التي ترى في الرد الإيراني تهديداً لها بشكل عام أو أنه من الممكن أن يشكل تهديداً لمصالحها الحيوية على وجه التحديد.
على الرغم من التوقعات التي تقول بأن رئيسي سيكون أكثر الرؤساء الإيرانيين اتساقاً مع مؤسسة المرشد الأعلى في عهد علي خامنئي، إلا أنه يواجه تحديات داخلية كبيرة متمثلة في الأوضاع المعيشية التي يعاني منها المجتمع الإيراني والتي كانت إحدى مسببات العزوف الشعبي عن المشاركة في الانتخابات الرئاسية؛ فنحن نتكلم عن نسبة لم تتجاوز 42٪؛ وهذا سيؤدي إلى طرح تساؤل حول شرعية ومشروعية نظام الحكم في حال لم تتحسن هذه الأوضاع.
إن اليمين التقليدي الإيراني الذي يمثله رئيسي سيكون تحت اختبار المجتمع الإيراني في حال لم يكن قادراً على إدارة المرحلة المقبلة داخلياً وخارجياً، في ظل تنامي اليمين الشعبوي وإمكانية إعادة ترتيب البيت الداخلي للتيار الإصلاحي، من أجل ذلك لن يُكرر رئيسي خطأ حكومة روحاني بالمراهنة على إنجاز الاتفاق النووي على سبيل المثال، بل سيضعه في الدرجة الثانية وربما الثالثة والرابعة على سلم أولوياته في مقابل تمتين العلاقات مع كل من روسيا والتفاهم معها على شكل نفوذها في سوريا، ومع الصين وشكل العلاقة الاقتصادية، وإبداء موقف أكثر تشدداً في المنطقة من خلال الدفاع عن سلوك التنظيمات السياسية والعسكرية التابعة لها؛ ما يبدو على أنه معركة جديدة بشروط جديدة في جولات التنافس بين واشنطن وطهران.