بقلم: وليد فارس – اندبندنت عربية
الشرق اليوم- خلال الحرب الباردة أتقنت الاستخبارات السوفياتية تكتيكاً كانت القوات النازية قد نفذته خلال الحرب العالمية الثانية، وهو ضرب المقاومات الوطنية في الدول المحتلة، بأصوات تدعي “المقاومة، ولكنها مزيفة وهدفها الأوحد هو ضرب المقاومات الحقيقية والأساسية.
“البروباغندا” النازية
بالفعل، فخلال سنين الاحتلال بين 1939 حتى 1945، من فرنسا إلى بولندا فأوكرانيا وروسيا، قام الـ “غيستابو”، البوليس السري الألماني (النازي) بتجنيد عناصر من المجتمعات المحتلة وتنظيمها “ككوادر ُمقاوِمة” بينما مهمتها كانت التهجم على القيادات الحقيقية للمقاومات الميدانية، وتشويه صورتها لمنعها من التأثير في المجتمعات هذه، وتحويل حركات المقاومة إلى “مقاومات مدجّنة” أي موجودة ولكنها “ممسوكة”، والهدف الأساسي للـ “غيستابو” كان تحويل المقاومات بعد اختراقها إلى “دبق لاصق” يجلب المقاومين الحقيقيين إلى الغصن الممسوك من قبل الـ “Fake Resistance”، أي المقاومة المسخ، وهي بنفسها مسيطر عليها من قبل استخبارات المحور، وتصبح المقاومة الوطنية، عبر هذا التكتيك، جسماً مدجناً، يُستعمل للقضاء التدريجي على قيادات وكوادر المقاومة، ويمنعها من أداء دورها ضد الاحتلال.
ومن بين أهم الحملات التي شنتها “البروباغندا” النازية على المقاومة الفرنسية خلال فترة الحرب، كانت حملة تشويهية ضد الجنرال شارل ديغول المنفي في لندن والجنرال لوكليرك الذي حشد طاقات الفرنسيين في الخارج، ومن بين “الاتهامات” التي سوقتها الآلة الاستخباراتية النازية عبر “كوادر المسخ” أن ديغول ولوكليرك وجماعاتهما “منفصلين عن واقع فرنسا تحت الاحتلال” وأنهم “ينّظرون من بعيد”، وأنهم عاجزون عن “إقناع الحلفاء بمشروع الاجتياح، لسنوات”، وكان الهدف الاستراتيجي النفسي البعيد المدى للنازيين أن يقطعوا الوصلة بين هذه الأصوات في الخارج والمقاومين الحقيقيين في الداخل ليستفردوا بهؤلاء ويسيطروا على شبكاتهم، بالتالي يقضون على المقاومة استراتيجياً.
“البروباغندا” السوفياتية والمنشقون
منذ حوالى 1949، بعد بدء الحرب الباردة، ركزت الاستخبارات السوفياتية، كسليفتها النازية على تكتيك “مسخ المعارضات” وبخاصة المنشقين الروس والأوروبيين الشرقيين، وقد نجحت موسكو عبر الـ “KGB” أن تنتج شبكات واسعة من “المنشقين المزيفين”، “Faux Dissidents”، لاستهداف المنشقين الأصيلين، وقيادات المعارضات الأوروبية الشرقية، وشمل التكتيك السوفياتي، إضافة إلى مكونات التكتيك النازي، نشر تلك الشبكات داخل الغرب، لا سيما في أوروبا الغربية والولايات المتحدة “لمطاردة المنشقين” في منفاهم وتشويه صورتهم ليس فقط لدى الشعوب المحتلة في الكتلة الشرقية، بل أيضاً لدى المهاجرين واللاجئين وكوادر المنظمات الداعمة للمعارضات ضد الأحزاب الشيوعية السوفياتية، والهدف السوفياتي كان إزاحة الرموز المنشقة الداخلية والناشطين في الخارج، وحتى المتخصصين بالاتحاد السوفياتي في الغرب، عن الإعلام ومنعهم من التأثير في القرارات الأطلسية.
وقد استعملت الاستخبارات السوفياتية عبر سلاح الـ “Intox” نشر الأخبار والمعلومات الخاطئة “Fake News”، لتشويه صورة الكوادر المعارضة في الداخل، وضرب رصيد الأصوات في الخارج “Discredit”، من أجل إحداث فراغ يملأه “القادة المسخ” وصولاً إلى معادلة تمنع حدوث مقاومات حقيقية على الأرض في أوروبا الشرقية، أو اتخاذ قرارات صحيحة في الغرب لدعم تلك المعارضات الشعبية، كما حدث في بودابست، وبراغ، وفرصوفيا، والبلطيق، لعقود، وقد شرح نواب البرلمان الأوروبي من دول أوروبا الشرقية، والخبراء، والمنشقون السابقون، وحتى مسؤولين سابقين في السلطات الحاكمة، كيفية تحرك “الآلة المنسقة للمنشقين المسخ ” Faux Dissidents”، بالتفاصيل، فهي اعتمدت على شبكتين مولتهما موسكو إبان الحرب الباردة، الأولى عمدت إلى اختراق صفوق المنشقين والمعارضين الحقيقيين وزرع معارضين “مجندين”، ولكن بقدرات مالية واسعة لم تعرف مصادرها حتى انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي.
وقد سمحت موسكو لهؤلاء المعارضين المزيّفين بأن ينتقدوها إلى حد ما ليكتسبوا “رصيداً معنوياً” لدى المعارضات، وبناء على هذا الرصيد المركب خصيصاً لهذا الهدف، قامت المجموعات المزيفة بحملات هجائية على المعارضين من أجل ضرب رسالتهم تجاه المجتمعات الأم. فاستهدفت شخصيات كليش فاليسا، قائد نقابة عمال “Solidarność” في بولندا، والكاتب المعارض فاتسلاف هافيل في تشيكوسلوفاكيا، والمنشقين الروس في الغرب كسولنجستين وسخاروف والمئات من الكوادر، الذين تعرضوا لأسوأ “البروباغندا” التي استهدفت أشخاصهم وحياتهم الشخصية.
ومولت الاستخبارات السوفياتية الشبكة الأخرى الموازية، وهي كناية عن منظمات وجمعيات “سلام ومضادة للحرب” Peace and Anti War ، وركزت هذه الشبكة على الضغط ضد مراكز قرار الغرب وبخاصة حلف “الناتو”، وكُشف بعد انتهاء الحرب الباردة أن معسكر السلام ومجموعاته العاملة في الغرب كانت غطاء لمعسكر السوفيات في ضغطه لبلبلة الرأي العام الغربي ودفع الحكومات الأطلسية لعقد اتفاقيات منفصلة مع حلف “وارسو” وخفض التسليح الاستراتيجي، إلا أن جماعات “السلام” المزعوم كانت تمارس “تقية سوفياتية” تجاه المعارضين بحيث كانت تتهمهم بالعمل “لصالح الحرب والمواجهة العسكرية” واضعة المنشقين والليبراليين المتموقعين في الغرب، في خانة مؤيدي الحروب الدائمة و”أعداء السلام”، إلا أن “المعارضات الزائفة” السوفياتية الصنع انهارت مع انهيار الاتحاد السوفياتي ما بين 1990 و1002، فكشفت معظم شبكات الـ “Fake” ووصل الذين استهدفتهم إلى قيادة تلك الدول لعقود من الزمن.
معارضات إيران الزائفة
إلا أن انهيار الاتحاد السوفياتي لم يعن انهيار الشبكات المماثلة التي تتقن تكتيك “البروباغندا” الزائفة، إذ سارع النظام الإيراني منذ بداية التسعينيات لنقل هذه الممارسات نفسها إلى أجندته السياسية والاستخباراتية، فتبنى أساسها وبات يطبقها على المعارضة الإيرانية، الداخلية والخارجية، وعلى معارضات الدول العربية التي سيطر عليها بواسطة “الباسدران” ومشتقاتها. القيادة الإيرانية فهمت دروس المرحلتين النازية والسوفياتية تجاه المعارضات واعتمدت خططاً مشابهة بل أكثر تقدماً، ومن أهم ما اقتبسته عن السوفيات والنازيين هو هدفان: استعمال قوى مضادة للحرب “Anti War ” في الغرب، عبر تمويل معين (سيكبر أضعافاً مع الاتفاق النووي)، والهدف الثاني هو استهداف معارضيها بشراسة عبر “معارضات زائفة” شبيهة بسالفاتها، بالفعل بدأ المراقبون منذ ما بعد 11 سبتمبر (أيلول)، لا سيما مع اقتراب موعد اجتياح العراق مشاهدة خطاب غير الخطاب الرسمي “للجمهورية الإسلامية”، يدعو لإصلاحات في إيران وللسلام في المنطقة، وينتقد المعارضات المقاومة للنظام من ناحية أخرى، واشتدت وطأة هذا الخطاب لا سيما منذ انطلاقة إدارة الرئيس باراك أوباما في 2009، منذ ذلك الحين شعر المنشقون الإيرانيون وقيادات المعارضة بهبّة أقوى تستهدفهم داخل البلاد وفي الغرب أيضاً، ما قد يفسر ذلك هو اقتراب طهران وواشنطن من الاتفاق النووي تدريجاً، فكان منطقياً أن تسعى إيران إلى إلغاء تأثير المعارضين الإيرانيين في الغرب، لمنعهم من إقناع الرأي العام في أميركا وأوروبا أن الاتفاق هو بحد ذاته يشكل خطراً مباشراً على حرية الشعب الإيراني والمجتمعات المحتلة الآخرين إذ إن النشطاء الإيرانيين المنفيين أو الأميركيين من أصل إيراني وحتى أصدقائهم في الغرب باتوا يشكلون الخطر الأكبر على الاتفاق وعلى السيولة التي سيوفرها لأركان النظام في طهران ولشركائهم في الغرب، إلا أن هجوماً يشنه النظام مباشرة على المعارضين لم يكن ليأتي بنتيجة، لأن الرأي العام الغربي سيختار المعارضة بدلاً من النظام، إذاً، وكما فعل السوفيات والنازيون من قبلهم، هندس مخططو النظام الإيراني شبكة من “المعارضين المزيفين” انتشرت في العواصم الغربية، وحصلت على دعم لوبي الاتفاق النووي، وركزت على تدمير صورة ورصيد القوى المعارضة الإيرانية بدل أن تركز على منظومة الملالي.
“المعارضون المسخ” وصفوا أنفسهم بأنهم “نقاد للحكومة الإيرانية”، “Iranian Government critics”، و ليسوا من دعاة “تغيير النظام”، وأنهم من “معسكر السلام” لمواجهة “معسكر الحرب”، وأنهم يدعون للإصلاح التدريجي لمؤسسات الحكم في طهران وليس لثورة كاملة على النظام، وروجت هذه الجماعات لانتقادات لاذعة للمعارضات الإيرانية الحقيقية واصفة إياها بأنها “فاقدة الارتباط بالداخل الإيراني وبعيدة عن الواقع” وتسعى “لاستدراج الولايات المتحدة لضرب إيران عسكرياً وإحداث كارثة هائلة”، والملاحظ أن هذه المعارضة “الناقدة للسلطة” في طهران إنما تنتقدها سطحياً بينما هي تقوم بدور المدمر لرصيد المعارضة الحقيقية، وقد تم تمكينها في الصحافة والإعلام الأميركي، حيث تنشر مقالاتها وتحاليلها في الـ “واشنطن بوست” و”نيويورك تايمز”، وتسمع أصواتها على الـ “CNN” وفي الإعلام الأوروبي، طبعاً بدفع من الأوساط المؤيدة للاتفاق، وكأن اتفاقاً غير معلن بين النظام وأصدقائه في الغرب يقضي بتعزيز صوت “معارضة إيرانية مؤيدة للاتفاق” على حساب معارضة إيرانية مقاومة له، وما يفهم من هذه المعادلة أن صوت المعارضة المؤيدة للاتفاق و”مغانمه” بات الصوت المقبول ويُظّهر وكأنه فعلاً “معارضة إصلاحية” تنتقد أداء السلطة (سطحياً) في مواجهة “مغامرين” من مؤيدي الحرب والتدخل العسكري.
أهداف المعارضة المزيفة الإيرانية
أول هدف “للمعارضة” المؤيدة للاتفاق النووي هو للتنظيم الأكثر صلابة وتدريباً وقدرة ميدانية في إطار المقاومة السياسية للنظام، وهو مؤسسة “مجاهدي خلق” المعروفة أيضاً “بمجلس المقاومة الوطنية الإيرانية” التي اتخذت من فرنسا ومن ثم ألبانيا، مركزاً قيادياً لها، طهران أطلقت حملات متتالية مباشرة ضد “MEK”، ولكن سمعة طهران لم تسمح لها بمنازلة هذا التنظيم القومي اليساري، فدفعت بأصوات “يسارية ليبرالية” لتقوم بالمهمة. والهدف الثاني للمعارضة المزيفة هو ابن الشاه الراحل، رضا بهلوي المقيم في الولايات المتحدة، فانطلقت أصوات معارضة “جمهورية” ترفض عودة الملكية إلى إيران.
وإلى الداخل الإيراني حيث حركت الاستخبارات الإيرانية “أصواتاً معارضة” ضد الثورة الخضراء في 2009، وضد ثورة خريف 2019، وبشكل عام يعتمد النظام على الشبكة ذات “الوجه الليبرالي” لإفقاد القوى الليبرالية الإيرانية الحقيقية مشروعية دولية وتمكين النخبة الحاكمة من رسم خططها السياسية والديبلوماسية من دون إزعاج المعارضة.
إضافة إلى محاولة تشويه صورة المعارضين الإيرانيين من الأكثرية الإثنية الفارسية، عملت استخبارات الحرس الثوري على شنّ حملات على كوادر الأقليات الكردية، و”الأحوازية” العربية، و”البلوشية” نظمتها عناصر من هذه المكونات تزعم أنها معارضة أيضاً، ولكن هدفها هو إضعاف تلك التيارات القومية لصالح النظام.
خرق معارضات “المستعمرات الإيرانية”
إضافة إلى تطبيق تكتيك “المعارضات الزائفة” إزاء المقاومة السياسية الإيرانية، نفذت طهران النهج نفسه حيال معارضات الدول التي تسيطر عليها لسنوات عدة، إذ إن أجهزتها توصلت إلى إنتاج أطراف تعلن عن نفسها أنها ضمن المعارضة لإيران، ولكنها عملياً تعمل على إفشال المحركين الأساسيين في المعارضات الوطنية في العراق، وسوريا، ولبنان واليمن، وحلفائهم دولياً، وسنتوسع في ما بعد حول التكتيكات التي استعملها الإيرانيون وحلفاؤهم في هذه الدول لسنين عدة ولا يزالون.
خلاصة أولى
إلا أن الخلاصة الأولى لهذا التحليل أن أحد الأسباب الأساسية وراء فشل عدد من المعارضات العربية والمشرقية للسيطرة الإيرانية على مدى عقود، هو الصراع الداخلي داخل هذه الحركات التحريرية الكبرى بين الأصيلين والمزيفين. فالتكتيك الإيراني المبني على ضرب المعارضة الأصيلة بالمعارضة المزيفة قد أفقد المقاومات السياسية المنتفضة من إيران حتى لبنان وصولاً إلى اليمن من شرعيتين، الأولى هي الشرعية الشعبية الداخلية حيث سقط الرأي العام ضحية المناورات هذه، وفقد الفرص ليختار المشاريع الاستراتيجية الصحيحة في الوقت المناسب لا سيما في العراق ولبنان.
والشرعية الثانية هي شرعية المجتمع الدولي الذي فقد القدرة على التمييز بين الصالح والطالح داخل حركات المعارضة والمقاومة، فصدّق المزيفين مراراً، وتخلى عن الأصيلين تكراراً، مقدماً نصراً بعد الآخر لصالح التشكيلات التي وقفت طهران وراءها من دون أن تٍرى. وكما حدث إبان الحرب الباردة مع السوفيات، تمكّن النظام الإيراني أن يمسخ كل القوى المعارضة في الدول التي “اجتاحها” في المنطقة، فخلق روافد لها تدعي رفع القضايا السيادية ولكنها أضاعت الوعي القومي ونشرت الفوضى السياسية ولا تزال، حتى إشعار آخر.