بقلم: أندرياس كلوث – الشرق الأوسط
الشرق اليوم – المعضلة قديمة قدم اللقاحات: هل تستطيع الدولة إجبار المواطنين على الانجرار لصالح الصحة العامة؟ ماذا عن المؤسسات الأخرى مثل المدارس والجامعات أو أرباب العمل؟ وإذا كان بإمكانهم فرض اللقاحات، فهل يجب عليهم ذلك؟
حتى مع اللقاحات الأكثر شيوعاً ضد الجدري، والحصبة، والسعال الديكي وما شابه، لم تتم الإجابة عن هذه الأسئلة بشكل نهائي في غالبية البلدان. هذا ما يطاردنا الآن لأننا نكافح جائحة فيروس «كورونا» ونحتاج إلى اتخاذ قرارات عاجلة.
تسير غالبية الحكومات في الوقت الحالي برفق لأنها تخشى تنفير الأشخاص الذين يحتاجون إلى التشمير عن سواعدهم والتعاون. فإيطاليا، على سبيل المثال، فرضت لقاحات «كوفيد» على العاملين الصحيين فقط، والمملكة المتحدة تفكر في فعل الشيء نفسه. لكن بعض السياسيين، الغاضبين من ترهلات اللقاح العديدة يفكرون في اتخاذ تدابير أكثر صرامة. فمثلا الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي هدد بشكل مفرط بأنه سيلقي في السجن أي شخص يرفض التطعيم.
تواجه المدارس والنوادي وأرباب العمل نفس اللغز، ويريدون أيضا تجنب المقاضاة. في الولايات المتحدة، تطلب العديد من الجامعات تلقيح كل من يرغبون في العودة هذا الخريف إلى مساكن الطلبة والفصول الدراسية، ولكن يُفترض أنها ستسمح للطلاب الآخرين «بالحضور» افتراضياً. في «وول ستريت»، تفرض أسواق «مورغان ستانلي» المالية التطعيم للموظفين الذين يرغبون في العودة إلى المكتب بينما يقوم الآخرون بالاتصال بهم. وستواجه المؤسسات في كل مكان، عاجلاً أم آجلاً، نفس الخيارات.
بصفتي ليبرالياً كلاسيكياً يقدر الحرية الفردية، أرى ثلاث طرق متشابكة في هذا النقاش: الأخلاقي، والقانوني والعملي. يجب أن تبدأ القضية الأخلاقية بفرضية أنه، باستثناء الظروف الخاصة، لا يحق لأي شخص أن يخبرني بما يتعين عليَّ فعله، حتى لو كان ذلك «لمصلحتي»، لأن هذا الأمر بالنسبة لي هو الحكم. بهذا المنطق، حتى قوانين حزام الأمان هي خطوة صغيرة نحو الاستبداد. لقد ارتديت واحداً طواعية لأنني أشعر أن ذلك منطقي. ولكن إذا لم أفعل، فما هو الحق الذي يجب على أي شخص أن يجعلني أرتديه؟ إنها حياتي وحدي. يمكن قول الشيء نفسه بالنسبة لخطر الإصابة بـ«كوفيد – 19».
لكن هذا الخط الفكري يصطدم على الفور بالفرق بين قانون حزام الأمان وتفويض اللقاح. إن إنقاذ حياة وصحة من يتعرض للطعن ليس سوى الغرض الثانوي للتلقيح. فالهدف الأساسي هو تقريب مناعة القطيع، بحيث يتوقف الفيروس عن الانتشار في المجتمع ككل، ويصيب ويحتمل أن يقتل الآخرين الذين لا يستطيعون التطعيم بسبب الحساسية أو المضاعفات الأخرى.
إذن، فإن تفويض اللقاح ليس مثل قانون حزام الأمان بل هو أشبه بالقواعد ضد العبث بهاتف ذكي أثناء القيادة، لأنه إلهاء يزيد بشكل كبير من خطر التسبب في حوادث تشوه الآخرين أو تقتلهم. على نفس المنوال، فإن رفضي تلقي اللقاح يجعلني ناقلاً محتملاً لـ«سارس كوف 2». فمع استمرار انتشاره، سيستمر أيضاً في التحور، مما يتسبب في ضرر لا تقدر عواقبه للأشخاص القريبين والبعيدين على حد سواء.
جرى تعريف «مبدأ الضرر» هذا بالفعل في عام 1859 من قبل جون ستيوارت ميل في أطروحته «حول الحرية» عندما قال: «الغرض الوحيد الذي من أجله يمكن ممارسة السلطة بشكل شرعي على أي فرد من أفراد المجتمع المتحضر رغماً عنه هو منع إلحاق الضرر بالآخرين».
إذا نظرنا إليها على هذا النحو، فإن الصحة العامة هي مثال آخر على ما يسميه خبراء الاقتصاد المشاعات، وهو مورد مشترك تتعارض فيه مصالح الأفراد عادة مع مصالح المجتمع، وبالتالي تتطلب التنظيم. تشمل الأمثلة التقليدية الرعي الجائر للأراضي العامة، أو الصيد الجائر في المحيطات، وتشمل الأمثلة الحديثة تناثر نفايات الأقمار الصناعية غير المرغوب فيها ومن ثم تلويث الغلاف الجوي، والآن هناك الحرب العالمية على «سارس كوف 2».
هذه الحاجة إلى منع الأذى للآخرين وكذلك «مأساة المشاعات» شكلت تطور التفكير القانوني حول المعضلة. ففي الولايات المتحدة، جرى تقديم أول تفويض للقاح في ولاية ماساتشوستس في خمسينات القرن التاسع عشر لمنع انتقال مرض الجدري في المدارس. وانتشرت هذه السابقة بسرعة إلى ولايات وأمراض أخرى، مما جعل المعارضين يذهبون بالتفويضات إلى المحكمة.
في عام 1905، قضت المحكمة العليا في قضية جاكوبسن ضد ماساتشوستس بأن الولايات قد تفرض التطعيم ما دام كان الإكراه مناسباً وضرورياً للحفاظ على الصحة العامة. في مثل هذه الحالات، قرر القضاة أن تفويضات اللقاح تندرج من الناحية المفاهيمية في فئة «سلطة الشرطة» للحكومة، والتي تقيد بشكل شرعي الحرية الشخصية من أجل الصالح العام.
في العديد من النماذج المتكررة، ساد هذا المنطق في معظم المجتمعات المفتوحة حتى الآن. في أبريل (نيسان)، على سبيل المثال، قضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورغ، في قضية سبقت الوباء ورفعها الآباء في جمهورية التشيك، بأن التطعيم الإلزامي «ضروري في مجتمع ديمقراطي».
يجب بالطبع أن تواجه كل من خطوط التفكير الأخلاقية والقانونية هذه الحقائق العملية، وهنا تصبح الأمور صعبة في ظل الوباء الحالي. ويرجع ذلك أساسا إلى أن لقاحات «كوفيد» لا تزال نادرة وجديدة وأقل فهما من لقاحات النكاف أو شلل الأطفال، على سبيل المثال.
السؤال الأول هو: هل المصل متاح بسهولة وبشكل كافٍ؟ حتى الآن، ليس في معظم البلدان. لا أرى كيف يمكنك التفويض بإنصاف بعقوبة على شيء لا يستطيع كل فرد في المجتمع الوصول إليه.
السؤال التالي: ما مدى أمان اللقاحات؟ لا يوجد شيء في هذا العالم خالٍ تماماً من المخاطر، لكن قرار التفويض يجب أن يرتكز على وزن خطر واحد: الخطر الذي قد يتعرض له الفرد حال كان اللقاح غير آمن له في مواجهة أخطار جماعية على الصحة العامة حال رفض أشخاص تلقي اللقاح.
بالإضافة إلى مخاطر لقاح معين، نحتاج أيضاً إلى معرفة ما إذا كان يمنع المتلقي فقط من الإصابة بالمرض أو أيضاً من نقل الفيروس. إذا كانت الإجابة هي الأولى، فتذكر أنه لا يمكننا التذرع بمبدأ الضرر أو الصالح العام.
هناك أيضاً طبيعة بشرية يجب مراعاتها، حيث يقترح بحث جديد قائم على استطلاعات جرت في ألمانيا أن تفويض اللقاح قد يرسل بإشارات نفسية تعيق فعلياً الامتثال العام. فالناس يستاؤون من التلاعب بهم، إما بالجزرة أو العصا، وهو تأثير يُعرف باسم «نفور السيطرة». يميل الإكراه أيضاً إلى التسبب في «فك الارتباط الأخلاقي»، مما يجعل الأشخاص الذين تناولوا اللقاح لأسباب الإيثار يتراجعون.