بقلم: د. خالد باطرفي – النهار العربي
الشرق اليوم- سألني المذيع الجزائري: تشير الأخبار إلى تقارب سعودي – إيراني، ومباحثات قد تنتج منها مصالحة. ولكن يبقى السؤال: هل تدوم؟ وما هي شروط الاستدامة؟ أجبته بعض إجابة، حسب الوقت المتاح، وفي هذا المقال أضيف عليها وأفصّل.
المباحثات ليست حديثة، فقد بدأت منذ عشرات السنين، وبلغت أفضل حالاتها وخير نتائجها في عهد الرئيس الراحل، هاشمي رفسنجاني، الذي جمعته بالقيادات السعودية علاقات متميزة.
ولعلي أكشف سراً هنا عندما أذكر أن الرئيس زار المملكة بعد تفجيرات الخبر عام 1994 وبقي عشرة أيام ليعتذر عن دور “الحرس الثوري” و”حزب الله” مع “القاعدة” في العملية الإرهابية (والذي لم يعلم عنه مسبقاً) ويعد ألاّ يتكرر ذلك في عهده مطلقاً. وفي المقابل، طلب الرئيس عدم نشر نتائج التحقيقات حتى لا تُحرج إيران ويتعقد دوره في إصلاح الخلل الذي أدى إلى ذلك.
وبالفعل، وفَى الرئيس رفسنجاني بوعده، ولو نسبياً، وهدأت الأمور الى حد كبير لسنوات. وخلال تلك الفترة تم تبادل الزيارات والتعاون في مسائل أمنية ساهمت في تأمين الحج من إرهاب “الحرس الثوري” وضبط التهريب وأمن الخليج.
لا تغيير
إلا أن إيران لم تتغير. ففي المقابل، نشطت أذرع إيران في المنطقة، بخاصة في لبنان، وتواصلت المخططات البعيدة المدى للهيمنة على الدول العربية المستهدفة، العراق وسوريا واليمن، وإيواء وتدريب الإرهابيين من دول الخليج، والتعاون مع “القاعدة” الذي كان من أبرز نتائجه تفجيرات السفارات الأميركية في كينيا وتنزانيا (1998) و”غزوة مانهاتن” في 11 أيلول (سبتمبر) 2001.
ورغم العقوبات والعزلة الدولية، ورغم معاناة الشعب الإيراني من تداعيات سياسات التدخل الخارجية، واصل الملالي مشروعهم الكبير لاستعادة الدولة الصفوية، وتأسيس الهلال الشيعي الممتد من طهران الى اللاذقية مروراً ببلاد الرافدين ولبنان، والتمهيد لعودة المهدي المنتظر بإشعال الحرائق في كل المنطقة بما في ذلك مكة المكرمة، كما تنص عقيدتهم المحرّفة.
المشكلة الحاكمة لسياسات إيران، هي أن النظام قام على مشروع عقائدي من دونه ينهار هيكل المعبد. وأي محاولة للتحول الى دولة طبيعية يعني مواجهة الشعب بخسائر أربعين عاماً من الاستثمار في هذا المشروع، ومحاسبة القائمين عليه حساباً عسيراً.
العقائد الأممية
وليست إيران وحدها في ذلك، فمثلها كل الأنظمة التي قامت على عقيدة أممية عابرة للحدود. فهي تنشأ أساساً بثورة على نظام مستقر، فيه موازنة للسلطات حتى لو طغت، ومحاسبة للحاكمية حتى لو بغت، وعلاقات خارجية مبنية على التحالفات والشراكات، ومحمية بالاتفاقات والقوانين الدولية، ومحكومة بمرجعية المنظمات الدولية. وتأتي بثوار لا يحترمون قوانين اللعبة، وأنظمة متمردة على النظام الدولي، ومشاريع تخالف المواثيق الأممية.
فنظام كوريا الشمالية، مثلاً، لا يمكنه أن يتحول طوعاً الى نظام طبيعي. ذلك أن أي نظام لا يقوم على الشيوعية الوراثية، سيسقط الطبقة الحاكمة في أول امتحان للديموقراطية.
ولتبرير معاناة الشعب فلا بد من هدف خارجي، تواجهه مؤامرة دولية. وفي هذه الحالة الهدف هو الوحدة بين الكوريتين، والتصدي للمؤامرة الرأسمالية والإمبريالية الدولية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. وطالما بقي الهدف بعيداً، وليس مستحيلاً، يبقى النظام وتستمر التضحيات. وقس على ذلك حال الدول المحكومة بأنظمة عقائدية ككوبا وفنزويلا، التي لو تصالحت مع العدو وتفرغت لبناء البلد، لتكشّف ضعفها وبان فشلها.
الدرس السوفياتي
ويمثل الاتحاد السوفياتي النظام الذي أراد التحول الى دولة طبيعية، فانهار، وخسر هيمنته ومكانته الدولية. ومثله الدولة العثمانية التي لم تتحول الى دولة طبيعية إلا بعد أن تنازلت عن نظامها العقائدي القائم على فكرة الخلافة الإسلامية، والتوسع الخارجي، والهيمنة الدولية. وكذا اليابان الإمبراطورية الإلهية، وألمانيا العرقية النازية، ودول أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى الاشتراكية.
وفي منطقتنا العربية، حالات مماثلة لأنظمة قامت على عقيدة أممية توسعية، ولم تستطع الاستمرار بعد أن ضعف التزامها بها. فالقومية العربية والبعث العربي والاشتراكية الدولية عقائد ثورية تبنتها دول كمصر والعراق وسوريا وليبيا واليمن الجنوبية، وحاولت فرضها على غيرها. بعضها نجح في التحول الى دولة طبيعية تنموية مسالمة، كمصر، وبعضها انتقل من عقيدة يسارية الى أخرى دينية، وواصل مسيرة التصادم والتخبط والفشل.
الحالة الصينية
كل الطبقات السياسية في الأنظمة المتحولة عقدياً خسرت مواقعها، ومرت بلدانها بحالة مخاض مؤلمة، رافقت عملية ولادة النظم الجديدة. وهذا هو الدرس الذي يؤرق من واصل المسيرة، كإيران وفنزويلا وكوريا الشمالية.
والمثال الوحيد الناجح، هو الحالة الصينية. ذلك أن التغيير المرحلي المدروس الذي قامت به الصين على مدى عقود، مكّنها من الانتقال بسلاسة الى عصر العلوم والتقنية، وتطوير نظام اقتصادي اشتراكي – مفتوح، يتماشى مع الاقتصاد العالمي الحر. وموازنة سيطرة الدولة على مفاصل النظام، مع تفعيل القطاع الخاص، واستيعاب المبادرة الفردية.
ولعل أبرز ما ميّز هذه التجربة أن الصين التي بنت سورها العظيم لترسم حدودها مع جيرانها، لم تكن في تاريخها الممتد عبر آلاف السنين حريصة على التوسع الخارجي، أو فرض عقائدها على الآخرين، بما في ذلك نسختها الاشتراكية. وإن استمرت على هذا النهج فسيسمح لها العالم بمواصلة مشروعها الاقتصادي في حلبة المنافسة الدولية، وإن حادت عنه، كما تشير بعض البوادر، ومالت الى الهيمنة السياسية والعسكرية، فسيتصدى لها القطب المقابل، وستدخل معه في حرب باردة أو ساخنة على حساب برنامجها الاقتصادي العظيم.
إيران الإسلاموية
وإيران الإسلاموية تمضي على أخطر الدروب. فهي تختلف عن أكثر الأمثلة أعلاه، إذ تحكم الملالي عقيدة مهووسة بالماضوية والغيبية، وتقود مشاريعهم أهداف توسعية، تدميرية، أدواتها إرهابية، تآمرية. فليس في مشروعهم مساحة للتعاون والبناء والتنمية، بل حملة جهادية دموية، تحالف المؤمنين بها، وتقتل المخالفين لها.
وبقاء النظام مرهون ببقاء الفكرة ومواصلة السعي لتحقيق الهدف، وانتظار خروج الإمام المنقذ القائد. وأي محاولة داخلية للتحول الى دولة طبيعية، سيواجه بالقمع، لأنه يعني انهيار النظام كله، وسقوط الطبقة الحاكمة وضياع مصالحها المادية، ومكانتها الدينية، والوقوف في محكمة الشعب والتاريخ.
الحل الوحيد
ولهذا … فلن تتغير الجمهورية الخمينية بإصلاح من داخل مؤسسة الحكم، ولن يطفئ الخمينيون نيران الثورة بإرادتهم، ولن يقبلوا بديموقراطية حقيقية تأتي بغيرهم. ولا حل إلا بتضافر العالم لتفليس النظام ومحاصرة الوحش وإضعافه، في انتظار ثورة شعبية تسقط المعبد على رؤوس الكهنة، وتفرض نظاماً مدنياً جديداً، يعود بإيران الى حضاريتها ويصالحها مع العالم من حولها، ويفرغها لتنمية ذاتها ضمن حدودها وبناء جسور التعاون مع الآخرين.
وحتى يتحقق ذلك، فكل مفاوضات واتفاقات، عهود وعقود، هي بالنسبة إلى الملالي، مجرد هدنة مخاتلة، حبر على ورق، ومحطة استراحة وتموضع على طريق الهدف المحتوم.