بقلم: أسامة رمضاني – النهار العربي
الشرق اليوم – الطريق المسدود الذي تجد فيه مؤسسات الحكم نفسها في تونس، يدفع الطبقة السياسية برمتها إلى التسليم بأنه لا يمكنها أن تواصل الانتظار إلى ما لا نهاية له. أن يجد الفرقاء سبلاً لتجسير الهوة الفاصلة بينهم ما زال أملاً قائماً، ولكنه يتضاءل كل يوم ومعه تتزايد المخاطر المحدقة بالبلاد.
سنة ونصف السنة تقريباً مرت على الانتخابات الأخيرة، وثلاث سنوات ونصف سنة أخرى ما زالت نظرياً تفصل البلاد عن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة. لكن انتظار 2024 كباب للخروج من الأزمة لم يعد الفرضية الأرجح. أصبح تنظيم انتخابات مبكرة سابقة لأوانها حلاً مطروحاً بعد أن استنفدت التجربة السياسية التي خاضتها البلاد منذ 2019 معظم إمكاناتها.
فكرة الانتخابات الجديدة تلقى مساندة مبدئية من قبل كثيرين وإن كان من منطلقات مختلفة ومتناقضة أحياناً. رئيس الجمهورية قيس سعيّد يراها مدخلاً لتغيير نظام الحكم والقانون الانتخابي. الكثير من الأحزاب السياسية، من بينها حزب النهضة الإسلامي، لا تريد أن تظهر وكأنها مترددة في مواجهة الناخبين من جديد. أما اتحاد الشغل فيرى في الانتخابات المبكرة السابقة لأوانها تسليماً بفشل الطبقة السياسية الممسكة بآليات الحكم، إلى جانب فشله هو كمنظمة نقابية في رأب الصدع بين الفاعلين السياسيين من طريق حوار وطني طرحه منذ أكثر من سبعة أشهر. وقد بلغ الأمر مؤخراً بالأمين العام لاتحاد الشغل أن توجه إلى أقطاب السلطة بالقول: “إما اخدموا البلاد كما ينبغي أو أرجعوا الأمانة لصاحبها وهو الشعب”. وكلامه كان موجهاً على ما يبدو للسلطات الثلاث.
وبعيداً من الحسابات السياسية والحزبية، يعكس التفكير في الذهاب إلى صناديق الاقتراع في تاريخ سابق لموعده الأصلي نفاد صبر الجميع على الساحة التونسية. هناك أيضاً خوف على البلاد واستقرارها من التداعيات التي قد تظهر في نهاية المطاف عن الخلافات التي لا تنتهي بين أقطاب السلطة التنفيذية والتشريعية، من حيث استكمال مسار الانتقال السياسي وكذلك قدرة نظام الحكم على مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والصحية ووقف تدهورها. هناك من يتساءل إن كانت البلاد قادرة على تنظيم انتخابات كلفتها المادية تقدر بملايين الدنانير في وقت تواجه فيه شحاً خطيراً في الموارد. ولكن كلفة الانتخابات تبقى أقل على العديد من الأوجه مما سوف تتسبب فيه أكثر من ثلاث سنوات إضافية من انسداد كامل للأفق وشلل في مؤسسات الدولة. ولكن السؤال الأساسي المطروح اليوم هو إن كانت الانتخابات المبكرة السابقة لأوانها سوف تشكل حلاً للأزمة أو مجرد عودة للمربع الأول من باب جديد.
هناك خشية من أن أية انتخابات تجرى بالقوانين الحالية نفسها المعمول بها وفي ظل النظام السياسي والدستوري القائم نفسه، سوف تعيد إنتاج التوازنات المنخرمة أصلاً ذاتها والمشاكل نفسها التي تعيق حسن تسيير شؤون البلاد، ولو كان ذلك بوجوه مختلفة. أقلية ترى عكس ذلك، مثل الوزير السابق لطفي زيتون، الذي يعتقد أن أية انتخابات سوف تكنس الوجوه السياسية الموجود الحالية من الساحة. لكن كنس الشخصيات الفاعلة لن يغيّر في حد ذاته شيئاً من حالة التنازع بين السلطات والانقسامات داخل البرلمان إضافة إلى ضعف ثقة الرأي العام في النخبة السياسية.
من المفهوم أن تتوجه الجهود إلى محاولات “الهندسة القانونية والدستورية” بهدف تغيير الأرضية التي سوف تستند إليها أية انتخابات مقبلة وجعل أي تغيير ناتج من رئاسيات وتشريعات تنظم حاملاً لآفاق جديدة وليس لمجرد لاعبين آخرين.
تتعدد المقترحات لإجراء تعديلات دستورية تخلق الظروف الكفيلة، وبوجود قيادة سياسية ذات رؤية وقرار وصلاحيات واضحة في رئاسة الجمهورية وحكومة تسيّر شؤون البلاد بنجاعة واقتدار وتكون مستمدة من أغلبية برلمانية مريحة. الهدف واضح إلى حد ما، ولكن السبل المؤدية إليه أقل وضوحاً. معظم النقاش يدور حول تطوير شروط الانتخابات التشريعية. اليوم هناك من يرى أن تشديد الشروط القانونية للترشح، من ذلك رفع عتبة الترشح وتشديد المراقبة القضائية على العملية الانتخابية أمر ضروري من أجل تعزيز صدقية الاقتراع. وكل محاولات الهندسة الانتخابية لا توفر أي ضمانات سواء تعلق الأمر بالإبقاء على النظام النسبي، ولو مع إدخال تعديلات عليه، أو الذهاب إلى نظام انتخابي سوف ينقص من تشتت المقاعد في البرلمان لكنه سيؤدي إلى استقطاب ثنائي عميق بين الكتل التشريعية يزيد في تأجيج التجاذبات و المآزق السياسية.
تختلف الرؤى وتختلف الصيغ المقترحة. هناك مثل الرئيس قيس سعيّد من يفضل نظاماً انتخابياً مبنياً على التصويت على الأفراد لا القوائم من أجل سحب الثقة من النائب المنتخب إن عنى ذلك للناخبين بعد التصويت. هناك من يقترح الخروج من نظام الدوائر الانتخابية الجهوية الذي أفرز أعضاءً في مجلس نواب الشعب يتفاوتون في الكفاءة والصدقية وينبرون أمام كاميرات التلفزيون في أشكال محبطة من العنف وتبادل الشتائم. يقترح البعض الآخر قوائم انتخابية موحدة على الصعيد الوطني لكل حزب أو تشكيلة مترشحة وليس قوائم جهوية متفرقة تضم ترشيحات غير جدية.
مهما تكن الصيغ المقترحة، فإن تعديل الدستور والقوانين والتراتيب الانتخابية المتفرعة عنها سوف يحتاج إلى إجماع صعب التحقيق وإن كان غير مستحيل بين الفاعلين السياسيين. هذا إلى جانب أن الانتخابات التشريعية والرئاسية السابقة لأوانها سوف تحتاج في نهاية المطاف إلى توافق حزبي على استقالة رأسي السلطة التنفيذية كمدخل قانوني ودستوري لتنظيم الاقتراعين الرئاسي والتشريعي.
وإصلاح الأنظمة القانونية والدستورية قبل تنظيم الانتخابات سوف يتطلب استعداداً للتعاون من أعضاء السلطة التشريعية والكتل الحزبية الداعمة لهم. ولكن هؤلاء الذين يشكلون القوى الفاعلة في البرلمان سوف ينظرون لأية تغييرات من منظور مصلحتهم الذاتية ومصلحة أحزابهم، ما سينعكس بالتسريع أو الإبطاء على أية مشاريع. وإذا غاب التعاون والتوافق خارج سياق الإعداد للانتخابات فكيف يكون الحال أفضل عشيّة انتخابات حاسمة؟
وفيما يتركز الاهتمام على إمكان تعديل الدستور والتشريعات يبقى هناك جانب مهم غير قابل للتعديل ويتعلق بسلوكيات الناخبين أنفسهم. وهناك العديد من المخاوف المشروعة بهذا الخصوص، أولها أن يؤدي انحسار ثقة المواطنين في السياسة والسياسيين إلى عزوف عن التصويت يمسّ من صدقية الاقتراع وجدوى الجهد الاستثنائي المطلوب لتنظيم الانتخابات خارج موعدها العادي. فقدان الثقة في الطبقة السياسية قد يجعل الانتخابات المقبلة عقابية قبل كل شيء. وأن لا تسمح الأجواء المشحونة خلال أية حملة انتخابية مقبلة بتسليط الأضواء في شكل هادئ على المشاكل الجوهرية للبلاد والبحث عن الشخصيات الأقدر على تجاوز تردّي الوضع الاقتصادي ومواجهة سائر أزمات البلاد بما فيها الأزمة الصحية.
في مثل هذه الأجواء، قد تنأى الكفاءات الحقيقية بنفسها عن المعترك الانتخابي وتترك المجال واسعاً لأصحاب الرسائل الشعبوية الذين تزخر بهم الساحة ولكنهم لن يستطيعوا تقديم أيّ من الحلول المطلوبة. عندها، سوف يعاقب الناخب الطبقة السياسية ولكنه قد يعاقب نفسه والمصالح العليا للبلاد أكثر. كما أن التعديلات القانونية والدستورية ولا حتى الانتخابات نفسها سوف تغير في شيء من سلوكيات السياسيين التي أنتجت الأوضاع الحالية أصلاً.
ويرى أستاذ القانون الدستوري سليم اللغماني أن التعديلات الانتخابية يمكن أن تنتج مشروعية سياسية جديدة لكن البلاد تحتاج أيضاً بحسب تعبيره إلى “عقلنة النظام السياسي” التي تسمح بقراءة واقعية وهادئة وليس قراءة تعجيزية لمقتضيات القانون والدستور. وهذه العقلنة في سلوكيات الساسة سوف تحتاجها البلاد سواء في طريقها إلى الانتخابات المبكرة أو بعدها. سوف تحتاجها تونس لاختصار مدة انتقالها السياسي والاقتصادي والاجتماعي وبدء مرحلة بناء طال انتظارها.