بقلم: رياض بوعزة – العرب اللندنية
الشرق اليوم- قبل الحرب في ليبيا، لم يكن النظام المالي متطورا بما فيه الكفاية نتيجة لامبالاة السلطات النقدية في عهد معمر القذافي بسبب إدمان البلد على ريع النفط، ولكن الأزمة التي تفجرت إثر إسقاطه عرت قمة جبل مشكلاته المزمنة وأظهرت ضعف دوره وتجلت بوضوح مع انقسام مصرف ليبيا المركزي، الذي من المفترض أنه أحد أبرز أركان بناء الاقتصاد.
كان اجتماع مجلس إدارة المركزي، بشقيه الأول في طرابلس ويرأسه المحافظ الصدّيق الكبير، والثاني مواز بمدينة البيضاء شرق البلاد ويرأسه علي الحبري، بكامل هيئته في ديسمبر الماضي لأول مرة منذ ست سنوات لتوحيد سعر صرف الدينار الذي فقد قرابة 70 في المئة من قيمته منذ اندلاع الأزمة علامة على أن ثمة ما يدعو إلى التفاؤل بأن توحيد المركزي بات مسألة وقت لكن لا شيء يدل حتى الآن على أن هناك جدية في بلوغ ذلك الهدف.
لا يمكن قراءة تطورات الأحداث في ليبيا في سياقها السياسي فحسب، بل أيضا في سياق معركة منفصلة تتمثل في إصلاح عمل النظام المالي المشلول أصلا منذ عقود طويلة، ولذلك فإن إنهاء انقسام المركزي في أعقاب خطوة توحيد سعر صرف الدينار أمام الدولار يعتبر هدفا رئيسيا للمسار الاقتصادي ضمن عملية السلام التي ترعاها الأمم المتحدة.
وأدت حالة الانقسام إلى إضعاف السيطرة على السياسة النقدية الموحدة وأداء الإشراف المصرفي على النظام المصرفي الذي يضم 38 بنكا وفق بيانات اتحاد البنوك العربية، بصورة كاملة، لأن كل شق من المركزي يقوم بطباعة النقود لتعويض النقص في السيولة دون تنسيق وفي غياب ضوابط شاملة لسياسة المالية العامة.
هذا الوضع جعل البنوك في معظم الأحيان تغلق أبوابها أمام الليبيين لشح السيولة. كذلك، بسبب الصراع السياسي والحرب تجمّدت كافة المبادرات والأنشطة في القطاع المالي بشكل كامل، في ما عدا الأنشطة المصرفية طبعا. كما توقَّف عمل سوق الأوراق المالية (البورصة) مع قلة عمليات التداول العامة، بينما لا تزال أشكال التمويل الأخرى، كالتأجير المالي والتأمين، في أولى خطواتها وقد لا ترى النور حتى قبل سنوات من الآن.
ونظرا لتخلّف القطاع المالي الليبي وغرقه في متاهة من المشكلات العميقة التي هددت أسس استمراريته في دعم بناء اقتصاد البلد النفطي، تعاني المشروعات الاستثمارية وأنشطة الأعمال الصغيرة والمتوسطة وكذلك السكان عادة نقصا في الخدمات. كما أن توفير ظروف الحوكمة والشفافية المالية لا يبدو ضمن أولوية الأولويات للفرقاء الليبيين، الذين اتفقوا على وضع حد للصراع السياسي بإجراء انتخابات نهاية هذا العام.
إن البطء في خطوات توحيد المركزي سيعطل إنعاش النظام المالي لليبيا، التي هي في أمس الحاجة لتعديل أوتاره لكي يساهم بدوره في إعادة الإعمار، وبالتالي إحلال تكافؤ الفرص في إمكانية الحصول على النقد الأجنبي وحماية العملة المحلية من الانهيار، وفي مرحلة لاحقة وهي الأهم تقديم تمويلات للشركات والمستثمرين للبدء في أعمالهم.
حتى الآن، لا يزال المركزي رغم ما مر به من تحديات وصعوبات كبيرة على المستويين الإداري والمالي المساهم الأكبر في البنوك المملوكة للدولة والتي تستحوذ على 90 في المئة من الودائع والقروض، وفق تقرير أصدره البنك الدولي نهاية 2020، كما أنه الجهة المختصة بالرقابة على القطاع المصرفي. مما يجعل من أهمية توجيه الأنظار إليه لإحيائه من جديد أمرا حتميا.
هذه الحالة من عملية سيطرة البنوك الحكومية على أموال الليبيين من بوابة الودائع والإقراض تنطوي على أوجه لتضارب المصالح منها التساهل المحتمل لصالح البنوك الحكومية، وكذلك منح الائتمان للمستفيدين ذوي العلاقات مع المتنفذين في السلطة. وهذا في حد ذاته يجعل النظام المالي برمته محل شك كونه سيضعف قدرته على تقديم ما هو مطلوب منه.
عامل آخر لا يقل أهمية، وهو أنه نتيجة لحالة التخبط والضبابية، سيكون من الصعب تحديد حجم المعاملات السنوية للبنوك وخاصة الحكومية منها، وعددها 16 بنكا، أبرزها المصرف الليبي الخارجي ومصرف الوحدة، كما أنه لا توجد بيانات دورية رسمية تشير إلى كيفية تحرك أموالها أو الأرباح التي تجنيها، إن وجدت.
ورغم قيام المعنيين بالسياسات النقدية في ليبيا بدراسة إجراء بعض الإصلاحات، إلا أن حالة الاضطراب التي شهدتها البلاد منذ 2014 عندما أدت محاولة فاشلة لتشكيل برلمان موحد إلى الانقسام السياسي بين طرابلس والمنطقة الشرقية وألحق الصراع الذي قسم البلاد ضررا بالغا بالاقتصاد، حالت دون ذلك وتم تعليق جميع المحاولات مؤقتا في ضوء تلك الأزمة.
المؤكد أن النظام المالي الليبي ليس لديه ما يكفي من المعلومات والقدرات والشفافية لاتخاذ قرارات ائتمانية سليمة، كما أنه لا يمتلك أسسا قوية تتماشى مع المعايير الدولية في التعاملات المالية أو الإقراض أو الوساطة المالية، فالقطاع المصرفي نفسه يعاني من عدم كفاية رأس المال، وقيمة الأصول لدى البنوك المملوكة للدولة محل تساؤلات ولا يقين حولها.
وبغض النظر عن كل ما يحدث فإن إعادة بناء قدرات اقتصاد ليبيا المتعطش للنمو تكمن في النظام المالي، وهذا لن يحدث إلا بمشاركة المؤسسات المالية الدولية، وفي مقدمتها البنك الدولي، والذي كان قد عرض قبل أكثر من ثلاث سنوات استراتيجية متكاملة لإصلاحه. فهل يضع الفرقاء الليبيون صراعاتهم السياسية جانبا ويلتفتوا لبناء اقتصاد بلدهم الذي خسر أكثر من 180 مليار دولار بسبب الحرب؟