الرئيسية / مقالات رأي / أوروبا صانعة التحول في العالم

أوروبا صانعة التحول في العالم

بقلم: عز الدين عناية – المدى العراقية

الشرق اليوم– يتمحور كتاب “أوروبا صانعة التحول في العالم» حول المسألة الاقتصادية، وتحديدا حول الريادة الأوروبية في هذا المجال الحيوي والحاسم في التطور الحضاري. حيث تحاول أستاذة التاريخ الاقتصادي الإيطالية فيرا زامانيي تفسير تلك الريادة من خلال تتبّع التطورات الحاصلة في هذه القارة على مستوىتنامي القوة الاقتصادية، ومن ثَمّ تسرّب تلك التحولات التنموية وانتشارها في كافة أرجاء العالم.

ومقارنة تلك الريادة بما حصل من محاولات مماثلة في حضارات أخرى، لم يسعفها الحظ في تحقيق انتشار واسع أو بسط هيمنة فعلية، وكذلك لم تكن مغرية حتى تُقلَّد أو تُحتَذى خارج مجالها الذي تشكّلت فيه. إذ ثمة تساؤل مطروح في الأوساط العلمية ألا وهو لماذا حصلت الثورة الصناعية في أوروبا دون غيرها من الفضاءات، مثل آسيا أو إفريقيا، برغم وجود حضارات عريقة وغنية حازت تقدّما تقنيا وعسكريا في زمانها؟ فيرا زامانيي في إجابتها عن هذا السؤال تدعم أطروحتها حول ريادة أوروبا بإبراز محورية التطور الحاصل على مستوى المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية، ولا سيما على مستوى القيم التي تمثّل الدافعالمتين المتواري لتلك التحولات. حيث تضافَرَ التقدّم في أوروبا مع اقتراب من تحقيق مطلب العدالة الاجتماعية (الحقوق) وترسيخ مبدأ المساواة الاقتصادية (الرفاه الاجتماعي).

تخصص المؤلفة الفصول الأربعة الأولى من كتابها إلى القوى الاقتصادية التي عرفها تاريخ البشرية، من خلال مقارنات بينها تحدد على ضوئها عوامل القوة والضعف فيها، وعوامل الانحصار والانتشار التي ميزتها. تنطلق فيرا زامانيي في دعم أطروحتها من خلال رصد مظاهر التطور الاقتصادي في العالم، منطلقةً من مراحل متقدّمة في التاريخ، تعود إلى تسع آلاف سنة قبل الميلاد،لتبلغ إلى حين تفجر الثورة الصناعية في العصر الحديث وانعكاساتها على كافة أرجاء المعمورة. فلا ريب أن الحضارات الشرقية بأنواعها، السومرية والآشورية والبابلية والمصرية والقرطاجية والهندية والصينة، وحتى حضارات أمريكا الجنوبية قد شهدت تشكل نواتات ثورات حضارية، مثّلت فرادة وقوة ضاربة في عصرها، كشأن ابتكار مفهوم الدولة الحاصل في أوروك (الوركاء العراقية) الذي أخرج البشرية من مجتمع اللاّدولة إلى مجتمع الدولة، ولكن تلك التطورات على أهميتها وريادتها حينها، لم تشهد في حيزها ميزة التراكم وخاصية التواتر وكذلك لم تتسم بطابع عالمي، حيث لم تسرِ عدواها كما حصل مع التجربة الأخيرة الأوروبية. مذكّرة أن الأرض كانت عامرة بالثروات الطبيعية التي بقيت جامدة أو دفينة إلى حين بلوغ الغزاة الأجانب. وتورد الكاتبة في الشأن حالة أمريكا الشمالية، حيث وُجدت فيها مجتمعات شبه مترحلة ومنغلقة على ذاتها، وذلك إلى حدود أواخر القرن السادس عشر، ولم يحصل تطورها سوى بحلول الأوروبيين.

وبحسب الكاتبة يتمثّل المحدد الرئيسي الاستراتيجي في تطور مختلف المجتمعات في الرؤى الفلسفية الدينية للعالم، وفي التنظيم الاجتماعي المتولّد عنه، المدعوم بسائر المؤسسات السياسية والتنظيمات الاجتماعية. وفي تحديدها لمعايير التطور تلك، تسعى زامانيي للمقارنة بين المؤسسات الاقتصادية الفلاحية المتقدمة في أوروبا والصين والفضاءات الإسلامية، مستثنية الهند من ذلك بتعلّة غياب تحقيق مكتسبات بارزة في الشأن. فمُثلّث الصين وأوروبا والبلاد الإسلامية، وِفق زامانيي، هو الفضاء المتميز على البسيطة الذي اختزن ابتكارات زراعية مركّبة، وتنظيمات اجتماعية راقية، ونُظم سياسية صلبة، دفعت بالبشرية للخروج من طور اقتصادي إلى طور آخر وأهّلتها للوقوف على عتبة التحول الحديث، وهو ما اقتنصت أوروبا خلاصته ودفعت به إلى مشارف الكونية مع المرحلة الحديثة. وللإلمام بالعوامل الأساسية للتباين تقارن الكاتبة بين الأبعاد الرئيسية للمجتمعات الثلاثة: نظام الحكم السياسي، وسير نظام العدالة، ونظم الجباية والضريبة. وبحسب الكاتبة تميزت أوروبا في هذه المقارنة بمحددات أربعة أساسية: المفهوم المسيحي للكائن البشري، بوصفه القيمة الوحيدة المطلقة؛ والعلاقة الأفقية الرابطة بين الأشخاص المتأتية من القيم المسيحية؛ والإشادة بالعقل كسبيل ذهني؛ وفي النهاية الفصل بين السلطات وما انجر عنه من تمييز بين المجالين الديني والسياسي. مُقرّة الكاتبة أن الحضارتين الصينية والإسلامية قد شهدتا ما يماثل تلك التطورات، لكنها لم تتحول إلى نمط اجتماعي يغري بالاتباع لدى أمم أخرى لاحتذائه والنسج على منواله، وهو ما جعل تلك التجارب، على تقدمها، تنكفئ على ذاتها وفق تفسير فيرا زامانيي.

بعد تلك المقارنات على مستوى عالمي، تركز زمانيي في الفصلين الخامس والسادس اهتماماتها في تحليل خاصيات المدينة الأوروبية منذ القرن الحادي عشر، ودور الاكتشافات الجغرافية في تطور نشاط التجارة العالمية. حيث شهدت أوروبا أسرع حركة تصنيع، وكانت أوّل قارة تشهد انتشار النقل عبر السكك الحديدية نتاج حركة التصنيع المبكّرة. كما كانت القارة التي شهدت أرقى أشكال التنظيم الاجتماعي، وفي الراهن الحالي الأقرب إلى نظام المساواة وحماية الشرائح الضعيفة والتطور الاقتصادي. لتنتهي بالحديث عن التبرعم الصناعي الأول في بريطانيا، والمتأتي جراء توفر نظام سياسي مؤسساتي يشجع على التجديد، وما رافقه من تشريع قانوني يملي ضريبة على الأغنياء بقصد إعادة توزيعها عند الحاجة على المتضررين، ويقدّم سلسلة من الضمانات في حال التعرض إلى العوز والحاجة والإفلاس. فمفهوم ضمان حق الرفاه قد نشأ مع سنّ “قوانين الفقراء” (Poor laws) (سنة 1601) التي هدفت لتقديم العون للمحتاجين عند الضرورة، وهي من الضمانات الاجتماعية التي أقرتها الدولة لتحميها شرائح واسعة من الانهيار، وتدفع بها للانطلاق مجددا في عملية النشاط الاجتماعي والإنتاج، ومن ثمة استئناف المساهمة في الدورة الاقتصادية. فضلا عن سياسات أخرى أقرتها الدولة، تشجع على الابتكار التقني والمبادرة الحرة، ناهيك عن اتخاذ تدابير حوّلت العمل المنزلي وأخرجته من إطاره الضيق الأُسري إلى العمل الحرفي ومن ثمَّ نحو المصانع الكبرى، وهو ما ترافق بتطور الآليات البخارية التي بدأ معها الاستغلال للثروات في باطن الأرض. مُبرِزة ضمن ذلك التحليل دور الدولة الحاسم في توجيه العملية الاقتصادية ورسم الخطط التنموية، حيث بقدر ما كانت المبادرات فردية جاءت مدفوعة أيضا بتشجيع الدولة ورعايتها. وبرغم أن زامانيي تركز في تلك الريادة البريطانية على التحولات الاقتصادية الحديثة، نجدها توسّع من نطاق رؤيتها لتشمل الفضاء الأوروبي متتبّعة بوادر التطور في كل من بلجيكا وألمانيا وإمبراطورية هابسبورغ وروسيا وإيطاليا وإسبانيا، مبرزة مختلف سياقات التطور فيها، لكنها تذهب إلى كونها مجرّد تقليد لما حصل في بريطانيا. وهي تجارب وإن حققت تقدّما لا بأس به فإنها لم تتهيّأ لها العوامل الحاضنة التي توفرت في بريطانيا، ولا سيما في تزاوج الإرادة السياسية مع مختلف العناصر الأخرى الضرورية من مؤسسات وابتكارات.

وعلى مدى ثلاثة فصول، السابع والثامن والتاسع، تنحو فيرا زامانيي لتناول تراجع الريادة الإنجليزية وتحوّلِ النهوض الاقتصادي باتجاه فضاءات جديدة داخل أوروبا وخارجها. حيث تحاول المؤلفة فهْمَ التطور الاقتصادي المنبعث خارج أوروبا أولا، لا سيما في أمريكا واليابان. فالتطور الاقتصادي في أمريكا يعود بالأساس إلى عوامل وفرة الثروات الطبيعية، وقلّة عدد السكان، واتساع الرقعة الجغرافية. وبالتالي من الطبيعي أن يؤدي توفر هذه العناصر إلى نمو اقتصادي متسارع، وهو ما اختلف جذريا مع واقع الحالة اليابانية التي ينعم فيها البلد بثروات محدودة وكثرة في عدد السكان، الأمر الذي أملى على السياسات الاقتصادية أن تنحو باتجاه مخططات تنموية مغايرة، تتلخص في إصلاح المؤسسات والإشراف عليها من فوق، ناهيك عما تمّ تدشينه من تعاون وثيق بين المؤسسات الخاصة وتكامل في أشغالها.

ثم تتناول المؤلفة بالتحليل تطور المالية الدولية بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث بدأ نظام المديونية والإقراض والمعاملات البنكية يشهد ترسخا على مستوى موسع. مدرِجةً ضمن ذلك المحور حديثا عن مرحلة الاستعمار الغربي، ولتصل إلى خلاصة مفادها أن المنتفعين بعائدات الاستعمار ليست الدول المستعمِرة، بل أصحاب المشاريع وملاك المؤسسات ومختلف المستثمرين. فقد كانت شعوب تلك البلدان ترزح تحت ضغط ارتفاع الضرائب وسياسات التقشّف في الداخل، في وقت كانت فيه مغانم الاستعمار تتكدس لدى بعض الخواص على حساب عامة الناس، من خلال توظيف قوة الدولة وسطوتها لصالحهم، مستغلين بذلك حتى أبناء وطنهم.

لينتهي التحليل في الفصول التالية، من العاشر إلى الرابع عشر، إلى الحديث عن أمْركة أوروبا على مستوى اقتصادي، خصوصا بُعيد الحرب العالمية الثانية. فقد ساهمت أمريكا في دفع عجلة التنمية في أوروبا المنهارة بعد الحرب من خلال ضخّ ما يعادل 850 مليار دولار في تلك الاقتصادات المتضررة جراء ويلات الحرب. وهي المرة الأولى في التاريخ التي يساهم فيها المنتصر في مدّ يد العون للمنهزم. وهكذا تطور الدخل القومي في البلدان المهزومة والمتضررة من الحرب بشكل فوري ومتصاعد. فمن العام 1948 إلى 1952 شهد الدخل القومي في ألمانيا تطورا بـ 61 في المئة، وفي النمسا بـ 44 في المئة، وفي إيطاليا بـ 31 بالمئة، وفي فرنسا بـ 27 بالمئة، في حين شهد النمو في الولايات المتحدة 14 بالمئة. يركّز الكتاب كذلك على “العقود الثلاثة الذهبية” التي عرفها الاقتصاد الأوروبي بين سنوات 1945 و 1973. وهي الفترة التي شهدت تقلصا للفجوة الاجتماعية بين سائر المواطنين وازديادا ملحوظا لمستوى الرفاه ولنسب الاستهلاك، حتى أن بلدانا أوروبية شهدت قفزة خارقة في تلك الفترة أخرجتها من طور متردّ إلى طور متقدم. وحالة إيطاليا التي كانت خزانا لتصدير المهاجرين واليد العاملة وعنوانا للتفاوت المزري بين الشمال والجنوب، تحولت في ظرف وجيز إلى بلد متطور، استطاع أن يغدوَ من بين أقوى الاقتصادات في العالم. لكن التحول البارز في أوروبا وهو ما بدأ يطلّ مع مطلع سبعينيات القرن الماضي، وِفق زامانيي، مع التوجه نحو العولمة، أو ما تطلق عليه بالثورة الصناعية الثالثة. لتصل الكاتبة إلى الحديث عن فكرة الاتحاد الأوروبي، التي باتت مطروحة كحلّ للوقاية الاقتصادية بغرض الوصول إلى خلق قوة أوروبية نافذة على مستوى عالمي.

تخصص الكاتبة الفصلين الخامس عشر والسادس عشر من مؤلفها للحديث عن التطورات الاقتصادية الحاصلة في آسيا، في كوريا واليابان والصين وماليزيا والمتمحورة حول تدخل الدولة القوي في رسم السياسات الاقتصادية، مع توظيف استثمار كثيف في المجال الصناعي وتشجيع للمؤسسات المحلية وعرقلة للمؤسسات الخارجية. ثم تعرِّج على تناول السياسة الليبرالية الجديدة المتبناة في الاتحاد السوفياتي إبان فترة بوريس يلتسين وما خلفته من دمار اقتصادي. ثمة مرجعية ثرية للكتاب في تتبّع تحولات القوة الاقتصادية في أوروبا وفي أرجاء العالم. مع استعانة للكاتبة بالعديد من الجداول ضمن مؤلفها لتوضيح التطورات بشكل تلخيصي وميسر على القارئ.

وفي الفصل السابع عشر والأخير من الكتاب تتناول الكاتبة صعود الليبرالية الجديدة بوصفها شكلا من أشكال التجدد في النظام الرأسمالي، مع ما خلفته من أزمات على مستوى البنوك وهو ما جرّ منذ العام2007 إلى أزمة قوية في الأوساط الأوروبية وإلى تراجع قيمة اليورو، ما فرض على تلك الدول الدخول في سياسات تقشف خلّفت تراجعا في الاستهلاك. لكن ذلك الوضع لم يتوقف عند ذلك الحد بل أفرز تشككا في مستقبل المجموعة الأوروبية، دفع بعض البلدان للتهديد بالخروج من تلك الرابطة أو التلويح بالتخلي عن عملة اليورو.

نلحظ رؤية حاسمة لدى فيرا زمانيي تخترق كتابها، كون التطور هو حتمي في أوروبا دون غيرها بموجب توفر عناصر حضارية محورية في الشأن. يبرز من تلك العناصر أساسا الإرث المسيحي و”القيم المسيحية” ولا ندري أين كان ذلك المخزون الروحي، طيلة قرون التردي والفوضى، قبل حصول النهضة الأوروبية؟ فزعم الفصل بين المجالين الديني والدنيوي، ما كان منبعه لاهوتيا، والكنيسة لم تتخل عن ذلك التحكم بالمجالين سوى مع حصول ما يشبه الثورة في المجتمعات الأوروبية، لا سيما مع البروتستانتية والتنوير، بعد أن طُردت الكنيسة من المجال السياسي.

كما أن التحليل للتطورات الاقتصادية المنقوصة في الفضاءات الأخرى يُعرَض بشكل مبتور أحيانا، ولا تتعرض الكاتبة إلى الدور التعطيلي لأوروبا لتلك الفضاءات. صحيح أن أوروبا قد غيرت العالم، ولكن تغييرها جاء مفروضا غصبا في العديد من البلدان، بعد تدمير البنى الحضارية في الفضاءات المستعمَرة، ولذلك ارتفعت أصوات بعد رحيل الاستعمار تنادي بالعودة إلى الذات وتصفية بقايا التبعية، وهي عمليات ليست هينة في ظل خلق عقلية بديلة متسرّبة في التعليم والاجتماع والاقتصاد، بلغت في بعض البلدان حدّ تغيير اللسان وحرف الكتابة.

نبذة عن المؤلفة: فيرا زمانيي أستاذة جامعية تدرّس التاريخ الاقتصادي في جامعة بولونيا الإيطالية. سبق لها أن نشرت في دار نشر إيل مولينو سلسلة من المؤلفات: “التصنيع والتفاوت بين الجهات في إيطاليا” (1981)، و” من الأطراف إلى المركز” (1990)، و”الثورة الصناعية وسياسة الاندماج الأوروبية” (1990).

شاهد أيضاً

لبنان واليوم التالي

العربية- غسان شربل الشرق اليوم– شاءتِ المهنةُ أن أكونَ في دمشقَ يوم اغتيالِ الرئيس رفيق …