بقلم: كرم نعمة – العرب اللندنية
الشرق اليوم- المخاوف المتصاعدة في العالم أكثر مما هي في أفغانستان، من عودة حركة طالبان المتشدّدة مع اقتراب موعد انسحاب القوات الأميركية بعد عشرين عاما من إدارة الفشل، تعيد إلى الذاكرة أسوأ جُمل المفاهيم السياسية التي قيلت في زمن الحرب.
كان دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي عام 2003 يحتفي مع رئيسه جورج بوش الابن بسحق العراق كدولة، تحت ذريعة أن الحرب تجلب الحرية. أما شعار “الحرية الدائمة لأفغانستان” الذي سبقه، فبقي مجرد صراخ إعلامي منذ أول ضربة أميركية لكابول.
لم تنته الحرب في العراق وأفغانستان إلى اليوم، ولم تجلب الولايات المتحدة معها الديمقراطية، فيما ينظر التاريخ السياسي إلى رامسفيلد بازدراء بوصفه مثالا عن الغطرسة الكاذبة مثله مثل بوش الابن.
باب الحرب الدوار يقف عند أفغانستان اليوم، فبعد عشرين عاما من القتال، لم يتم القضاء على طالبان المتوحشة، والأفغان بمن فيهم الحكومة والجيش يضعون أيديهم على قلوبهم من اجتياح قادم لذوي العمائم البيضاء، لن تكون ضحاياه النساء اللواتي رمين البراقع فقط، ذلك بمجرد اكتمال الانسحاب الأميركي في سبتمبر القادم.
كذلك تُحوّل الحروب غالبا القيم السياسية المعلنة إلى دراما كوميدية، بمجرد أن نعرف أن واشنطن تتحاور منذ سنوات مع حركة طالبان المتطرفة من أجل السلام! جزء من مشهد الكوميديا أن زلماي خليل زادة مجمّل مشهد الرثاثة السياسية في العراق بعد الاحتلال يقود الحوار مع طالبان، وعلينا أن نتوقع النتائج أكثر مما نترقبها.
يتهكّم الصحافي البريطاني ماكس هاستينغز مؤلف كتاب “تاريخ ملحمي لحرب مأساوية” على موعد الحرب القادمة للولايات المتحدة بعد الانسحاب من أفغانستان، وهو يستعيد مزحة قديمة بالقول “ماذا لو بدأت الحرب ولم يأت أحد”.
جزء من الكوميديا السياسية هو الحوار الذي كُشف عنه مؤخرا بين الهند وطالبان وهي تستعد للعودة بوصفها المسيطر ثانية على أفغانستان. “لا تغب عن بالك هنا باكستان وعلاقتها المتوترة بشكل دائم مع الهند”.
لذلك صار السؤال بشقين، ليس عن الديمقراطية التي فشلت واشنطن بتثبيتها في أفغانستان كما في العراق بعد عقدين من القتال، بل انصياع الهند للحوار مع حركة وحشية وبغيضة مازالت تؤمن بأيديولوجية تعود إلى القرون المظلمة، لأنها شعرت بعودتها القريبة بعد الفشل الأميركي في اقتلاعها.
وتلك خطوة عملية وفق فن الممكن السياسي، أو بتعبير مايكل كوجلمان الباحث في مركز ويلسون بواشنطن “إنها خطوة عملية للغاية لقد قرأت الهند ما كتب على الحائط وتعلم أن حركة طالبان القوية تستعد لأن تصبح أكثر قوة في أفغانستان”. تلجأ الهند مبكرا للتحاور مع طالبان قبل أن تصل إلى القصر الرئاسي في كابول من أجل ضمان عدم استهداف مصالحها.
مازالت القصة لم تغادر ثيمتها السياسية في سؤال أين الديمقراطية بعد عقدين من الموت، وماذا عن جملة سيء الذكر رامسفيلد عن الحرب التي تجلب الحرية، فيما أشد أعداء طالبان يحاورونها اليوم باعتبارها العائد ثانية لبلد لم تجفّف دماؤه بعد!
ربما من مصلحة الأميركيين أن يضع الرئيس جو بايدن خطط الانسحاب من المناطق المتوترة من أجل الحفاظ على جنوده “فرنسا تعمل الشيء نفسه في أفريقيا” لكن لمن يتركون تلك البلدان الملتهبة، الأهم من ذلك مَنْ يحاسب مَنْ على الديمقراطية المهدورة والوعود التي لم تتحقق من النجف حتى تورا بورا؟
منذ بداية الألفية الثانية التزمت الولايات المتحدة مع دعم غربي لها بإرسال قوات عسكرية إلى الشرق الأوسط بذرائع شتى، اكتشف العالم لاحقا كذب أغلبها، القضاء على أسلحة الدمار الشامل في العراق التي لم يعثر عليها، وفشل القضاء على طالبان في أفغانستان التي تتحاور معها واشنطن اليوم.
كانت الولايات المتحدة تريد إقناع العالم بأنها تضحي بجنودها في هذه الدول لدعم الحكومات المتعاطفة معها وتعزيز الاستقرار وحرمان التنظيمات الإسلامية المتطرفة من الملاذات الآمنة.
لم يتحقق شيء من ذلك بمجرد تأمّل الخارطة السياسية من العراق إلى سوريا واليمن حتى ليبيا. مع التكلفة المؤلمة التي دفعتها واشنطن من أرواح جنودها وأموالها التي وصلت إلى تريليون دولار في أفغانستان وأكثر من ذلك في العراق.
يمكن الحديث عن هزيمة داعش بمساعدة القوات الأميركية، لكن هذا التنظيم ولد كنتاج لاحق للتدخل الأميركي في المنطقة، ولم يكن من ضمن ذرائعها في إرسال القوات إلى المنطقة.
من البساطة بمكان توصل أي مراقب إلى نتيجة أن الفشل كان نهاية إرسال القوات الأميركية إلى المنطقة، والفشل كان نتيجة انسحاب تلك القوات وليس تحقيق مهامها، والفشل أيضا في مسعى الرئيس بايدن اليوم وهو يربّت على أكتاف إيران وهي تدفع بزعمائها الراديكاليين للحوار مع واشنطن. فيما لم يتحقق شيء من السياسات الاستعمارية الجديدة، بينما أصبح الجحيم معادلا واقعيا لجنة الديمقراطية التي كانت توعد بها شعوب المنطقة من إدارة جورج بوش الابن.
قبل سنوات وصف الكاتب البريطاني ماثيو باريس ما حصل من إخفاقات تاريخية من قبل القوات الغربية في العراق وليبيا وأفغانستان وسوريا، بأثمن درس سياسي للتعلّم من الفشل. مطالبا حكومات العالم الغربي الاعتراف بأنها ضلت طريقها إلى المنطقة، فالكذب بأعلى صوره أن تتحدث الغدارتان الأميركية والبريطانية بأنهما تعرفان ماذا تفعلان في العراق وأفغانستان.
يتساءل باريس الذي يعدّ من بين أدق المحلّلين السياسيين معرفة بالعالم العربي: لماذا نتحمس لأسطورة لورنس العرب، باعتبارنا من يمتلك الخبرة والدراية لتقديم الحل المثالي لمعضلات تلك الدول؟ ما الدليل الذي يقدمه لنا التاريخ على نجاحنا هناك من العراق حتى ليبيا؟