By: Jonathan Miller
الشرق اليوم– توجّهتُ إلى “قاعة الشعب” قبل أيام للاطلاع على مسار التصويت خلال الانتخابات الإقليمية في فرنسا، لأنني لم أعد مستشاراً في البلدية بعد إقرار خطة “بريكست” ولم أعد مُكلّفاً بالمشاركة في مراقبة الاقتراع، لكني أردتُ الاطلاع على الأجواء العامة، فاكتشفتُ أنها باردة بامتياز!
الفرنسيون معروفون بمشاركتهم الواسعة في الانتخابات، لكن اختلف الوضع هذه المرة، فأصبحت هوية الفائز واضحة فور احتساب عدد المشاركين. لقد فازت الأغلبية الصامتة التي امتنعت عن التصويت بنتيجة ساحقة، وبقي ثلثا الناخبين في البلدية التي كنتُ أعمل فيها في منازلهم، وهذا ما يفسّر نسبة المشاركة الوطنية التي تُعتبر الأدنى مستوى منذ 25 سنة على الأقل، وتعكس هذه النسبة أيضاً رفض الناخبين الوثوق بأي مرشّح أو حزب.
على المستوى الوطني، شكّلت النتائج هزيمة للمرشحين المتحالفين مع الرئيس إيمانويل ماكرون الذي يفتقر إلى الشعبية وبصعوبة حصدت لوائحه 11% من الأصوات، لكن النتائج كانت سيئة أيضاً بالنسبة إلى مارين لوبان اليمينية، مرشّحة “التجمع الوطني” الذي كان معروفاً باسم “الجبهة الوطنية”، وكانت لوبان تأمل حصد أكبر عدد من الأصوات في مجموعة من المناطق، لكنها لم تحقق أياً من أهدافها، لكنها نجحت في التفوق خلال الجولة الأولى في مدينة “بروفانس” فقط، ولم تكن النتيجة مؤثرة بأي شكل.
حقق اليسار التقليدي واليمين الوسطي نتائج أفضل، فحصد المعسكر الأول 15 في المئة من الأصوات والثاني 28 في المئة، وقد تشير هذه النتائج إلى نزعة الناخبين الخائبين إلى العودة إلى الأحزاب التقليدية ولو أنهم يفتقرون إلى الحماس، أما اليسار المتطرف، فقد خسر الدعم في كل مكان.
يصعب تحديد الطرف الذي تعرّض لأكبر إهانة، إذ لم يحصد أيٌّ من وزراء ماكرون عدداً كافياً من الأصوات للانتقال إلى الجولة الثانية، علماً أن أربعة منهم كانوا مرشّحين في نظام يسمح للسياسيين بتولي مناصب عدة.
بالنسبة إلى لوبان، كانت النتيجة كارثية لأن آمالها بإيجاد منصة واعدة لإطلاق حملتها الرئاسية في السنة المقبلة تلاشت بالكامل، فبعد حملة بدت فيها مواقف لوبان غير متماسكة بكل وضوح، فضّل 75% من ناخبيها التقليديين ملازمة منازلهم، لكن لم تكن النتيجة التي حققها حزب “الخضر” جيدة أيضاً، فقد تبيّن أن الدعم الذي يحصده خارج المدن الكبرى محدود، وهذه النتائج تُذكّرنا بأن استطلاعات الرأي الفرنسية لا تكشف أي معلومات مفيدة، فمنذ أيام قليلة، زعمت منظمة “بوليتكو يوروب” أن نسبة تأييد ماكرون بدأت ترتفع بشكلٍ ملحوظ وفضّلت الاستناد إلى استطلاعات مشبوهة وامتنعت عن مغادرة مكاتبها للتكلم مع الناخبين على أرض الواقع.
تثبت النتائج الأخيرة أن السياسة في فرنسا متقلّبة بامتياز، حيث تشعر لوبان بأعلى درجات اليأس، فهي لا تجيد التكلم على شاشات التلفزة ولا تفقه شيئاً عن الاقتصاد ويحيط بها فريق مريع، حتى أنها لم تتفوه بعبارة مؤثرة واحدة على مر حملتها، ويبدو أن عدداً كبيراً من داعمي خطّها السياسي بات مستعداً للتخلي عنها قبل الحملة الرئاسية التي تعجز عن الفوز فيها، ومن المتوقع أن يقف إريك زيمور، الكاتب والصحافي اللاذع والمذيع المشهور على قناة “سي نيوز”، في وجهها خلال الانتخابات الرئاسية في السنة المقبلة.
أما ماكرون، فقد يعجز بسبب غطرسته عن الوصول إلى الجولة الثانية من التصويت الرئاسي بعد أقل من عشرة أشهر، فقد كانت أفكاره الهوسية حول القيم الأوروبية وعدم قدرته على التحكم في وباء كورونا كفيلة بتذكير الناخبين بأن عهده الرئاسي فاشل على جميع المستويات، لقد تباطأت الإصلاحات الاقتصادية التي اقترحها وفشل في السيطرة على الوضع الأمني المتدهور، فأصبحت مساحات واسعة من البلد خارجة عن القانون، ثم انجرح كبرياؤه بالكامل في الفترة الأخيرة، وحين صفعه ناخب غاضب منذ بضعة أيام، صفّق عدد كبير من الناس حوله، فلم تكن هذه الجولة من الانتخابات صفعة على وجهه بل أشبه بلكمة قوية على فكّه! لقد وحّد ماكرون فرنسا ضده. قبل الجولة الثانية من الانتخابات في الأسبوع المقبل، من المبكر إصدار استنتاجات نهائية حول الوضع القائم، فقد ينتج النظام الانتخابي الشائب مفاجآت أخرى، لكن يمكن اعتبار موقف الأغلبية الصامتة من الناخبين بمثابة توبيخ واضح للطبقة السياسية الفرنسية التي تثبت فشلها في جميع المناسبات.
باختصار، يبدو أن الفرنسيين يرفضون لوبان والرئيس ماكرون معاً.
نقلاً عن الجريدة الكويتية