بقلم: كوليت بهنا – الحرة
الشرق اليوم– هذه المرة، لم يوقظ ستيفن سبيلبيرغ ديناصوراته من سباتها التاريخي ليطلقها بين مقاعدنا ويحبس أنفاسنا داخل أسوار حديقته الجوراسية. لم يضعنا بين أنياب فك مفترس أو في مواجهة شاحنة غامضة يقودها قدرٌ متربصٌ سيصيبنا بتوجّس مزمن حال رؤية أية شاحنة على الطرقات. لم يحملنا داخل سلّة فوق دراجة هوائية ويحلّق بنا في رحلة خيال قمرية لإنقاذ مخلوقه الفضائي الصغير وإعادته إلى الوطن.
مفاجأته اختلفت في نوعيتها، وإن كانت ترتبط بكل ماتقدم من متع وإثارة قدمها لنا خلال مسيرة إبداعية حافلة اتسمت بالتفرد والتحديث، وذلك بالإعلان عن اتفاقه المبرم قبل أيام مع منصة NETFLIX لإنتاج أفلام سنوية وعرضها لصالحها، وهو الذي أعرب في أكثر من مناسبة سابقة عن قلقه من خطر منصات البث التدفقي على العروض في صالات السينما وعرف أنه من أشد منتقديها.
حين يقدم أحد ثاني أبرز صانعي أمجاد هوليوود السينمائية بعد أستاذه وزميله مارتن سكورسيزي على مثل هذه الخطوة ويعيد النظر في آرائه السابقة، وحين يحتل هذا الخبر صدارة نشرات الأخبار العالمية، لاشك أنه يحمل في طياته مؤشراً لتحول قادم في عالم السينما وآليات مشاهدتها، وربما ترسيخاً لبداية حقبة جديدة ارتسمت ملامحها الأولى منذ سنوات قليلة كمرادف للتحول الرقمي العالمي.
يمكن تسمية هذه النقلة التحديثية بالرؤية الواقعية لتطورات المشهد العالمي واقتصادياته المتداعية. رغم ذلك، فالرجل لم يصب عشاق السينما في مقتل بتصريح متشائم حول تقنين الإنتاج أو تعسّره أو توقفه، بل أقدم على قراءة حقائق الأرقام وحرك بمرونة بوصلته التي تشير إلى الاتجاه الأكثر ديناميكية والذي يقتضي بأهمية فتح نوافذ جديدة للفيلم السينمائي ولو عبر المنصات، وهي التي ابتدأت في واقع الأمر سحب البساط من صالات العرض منذ سنوات.
جائحة كورونا التي عطلت حيوية العالم وشلّت معظم نشاطاته منذ عام ونصف، ويتوقع بحسب الدراسات العلمية أن تستمر في إلقاء ظلالها الثقيلة لسنتين قادمتين على الأقل، لم توفر في حجم أضرارها وخسائرها صناعة السينما وكل مايتعلق بها. حيث أفضت إلزامية التقيد بتعليمات التباعد الاجتماعي في الأماكن المغلقة وأبرزها صالات السينما تخفيف عدد المقاعد، الأمر الذي ترك أثره المالي على أصحاب الصالات وعلى العائد المالي الذي تجنيه الأفلام وخاصة في موسم الصيف أو العطلات.
بحيث فرضت الجائحة نفسها كورقة أخيرة ضاغطة باتجاه هذا التحول وأثمانه التي ستصيب معنوياً أي مخرج وفريقه وتحرمهما من لحظات النشوة التي يولدها العرض الجماهيري والتفاعل البشري المباشر. كما ستحرم نخبة عشاق ارتياد صالات العرض من متعة الابهار البصري والصوتي الذي توفره الصالات وفرص اللقاء الاجتماعي والتشاركي.
لكن الواقع يشير إلى أن غالبية الناس هيمنت عليهم وساوس لن تزول في الأمد القصير، وباتوا كسولين نسبياً وغير اجتماعيين بالمطلق، أضف إلى الاستغناء عن الترفيه ومايكلفه حضور فيلم في صالة بالنسبة لعائلة كاملة. بالتالي لن تحرم العامّة من متابعة السينما بالمطلق، بل ستحظى بهذه الخدمة غير المجانية عبر شاشاتها المنزلية ودون مجازفة، مسترخية وآمنة مطمئنة أن الأريكة معقمة والبوب كورن صناعة منزلية، لاغريباً تتوجس من مجاورته على أحد المقعدين الجانبيين، أو طويل رقبة يعيق الرؤية في المقعد الأمامي، أو ثقيل ظل في الخلف يثرثر وينقل أمراضاً معدية مع رذاذ أنفاسه.
لن تغيب الصالات في المطلق، لكنها قد تتلمس في المستقبل القريب تأثير هذا التحول الذي سيصيب بشكل خاص صالات العرض العالمية في دول كبرى تحتفي بالسينما وتصنعها وتمتلك جمهوراً عريضاً يتابعها. لكنه لن يطال صالات العرض في العديد من دول العالم النامي ومعظم الدول العربية التي غابت عنها في الأساس أو اضمحلت الثقافة السينمائية وطقوسها الاجتماعية والعائلية التي شهدتها لعقود خلت وباتت صالاتها العريقة خاوية تصفر فيها الريح.
ولدت السينما وقلصت معها أمجاد المسرح. ولد التلفزيون وغيب أمجاد الراديو. ولدت كاميرات التصوير الديجيتيال ليتراجع الفيلم الخام. ولد الهاتف الجوال لتغيب أمجاد الهاتف الثابت. وهكذا دواليك.
هي سنّة التقدم، كل جيل جديد سيفرض شروطه ويحتل أمجاد آبائه وأجداده. وفي مواجهة هذه التبدلات والتحديثات المستمرة، تطرح الحياة خياراتها على الجميع دون إكراه، فإما التشبث في الخندق القديم بعناد، أو المرونة وركوب عجلة التقدم التي لاتنتظر أحداً ولاتتوقف ولاتعود إلى الوراء.
في النهاية، كل مايهمّ هو أن تستمر السينما عبر أية وسيلة ومن أي نافذة.