بقلم: هشام ملحم – النهار العربي
الشرق اليوم- الانتقادات القوية التي وجهها وزيرا الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكين، والفرنسي جان أيف لودريان، للزعماء اللبنانيين المسؤولين عن الأزمة الاقتصادية والفساد وسوء الإدارة، خلال لقائهما الأخير في باريس، تؤشر الى بداية تنسيق جدي وغير مسبوق بين البلدين، يشمل محاسبة شخصيات سياسية ومصرفية لبنانية ترفض أي إصلاحات مالية واقتصادية جدية لمنع الاقتصاد من الانهيار الكامل، وفقاً لمصادر مطلعة في واشنطن.
وفي هذا السياق، قال مسؤول سابق خدم في إدارة الرئيس السابق ترامب، إن السلطات الأمريكية التي تفرض العقوبات ضد مسؤولين في الخارج استناداً الى قانون ماغنيتسكي الدولي لمحاسبة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان والمتورطين في الفساد، وتحديداً وزارة الخزينة وأجهزة الاستخبارات، لديها قائمة بأسماء مسؤولين آخرين يتم التحقيق بخلفياتهم. وكانت الحكومة الأمريكية قد استخدمت قانون ماغنيتسكي لفرض العقوبات ضد الوزير السابق جبران باسيل في تشرين الثاني (نوفمبر) 2020. وتستغرق عملية التحقيق بالشخصيات التي تستهدفها العقوبات أشهراً عديدة، بحيث تكون الحجج القانونية والأدلة الحسية ضد المسؤولين المستهدفين قوية ويمكن الدفاع عنها في المحاكم.
وكان من اللافت أن الوزير لودريان كرر أكثر من مرة القول إن هناك تطابقاً بين البلدين في المواقف تجاه لبنان واحتمال انهياره الكامل، ومما قاله: “نحن ندرك أنه سيكون أمراً مأساوياً إذا سقط ذلك البلد وإذا تفكك واختفى”. وأضاف في مؤشر الى إجراءات حسية: “لاحظنا ذلك.. وقررنا أن نتحرك معاً، لفرض الضغوط” على الأطراف المسؤولة عن الوضع المأسوي، مشدداً على “أننا نعرف من هم” وتابع: “ولذلك وافقنا على أن نتخذ سوية بعض المبادرات القوية من أجل حلّ الوضع”.
الوزير بلينكن تحدث بلهجة دبلوماسية عامة أكثر من نظيره الفرنسي، ولكنه ذكّر بأن اللبنانيين يطالبون بالشفافية ومحاسبة المسؤولين عن الفساد المستشري في البلاد، وأكد أن الولايات المتحدة وفرنسا والمجتمع الدولي ملتزمة دعم لبنان، لبنان الملتزم تحقيق التغيير الحقيقي “ولكن يجب أن نرى قيادة جدية في لبنان”.
وجاءت تصريحات لودريان القوية على خلفية تقارير تحدثت عن تحقيقات فرنسية حول حاكم المصرف المركزي رياض سلامة الذي وصفته صحيفة “فاينانشل تايمز” بأنه “في قلب الانهيار” اللبناني، وإمكان فرض عقوبات عليه، واحتمال قيام سويسرا وبريطانيا بتحقيقات مماثلة وفقاً للصحيفة.
المسؤول الأمريكي السابق قال لنا إنه عندما زار وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية السابق دايفيد هيل لبنان، ارتأى أن يلتقي الحاكم سلامة في منزله لبعث رسالة الى الرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل بأن واشنطن ليست في صدد فرض عقوبات ضد سلامة. وحين سؤاله عن الاتهامات الموجهة الى سلامة بتحويل مئات الملايين من الدولارات الى الخارج، أجاب المسؤول السابق: “هذه الاتهامات قد تكون صحيحة، ولكننا كنا مقتنعين بأن عون وباسيل يريدان التخلص من سلامة الذي لا يزال قادراً على رفض بعض طلباتهما، واستبدال حاكم آخر به يدين لهما بالولاء”.
هذا القلق العلني الذي أعرب عنه لودريان وبلينكن، يعكس تقويماً قاتماً للغاية لاحتمال حدوث انهيارات أمنية تؤدي الى اصطفافات وتوترات اجتماعية وطائفية، في الوقت الذي يعاني فيه الجيش اللبناني من أزمة مالية خانقة غير معهودة تمنعه من شراء الوقود والأدوية والأغذية، ما أدى الى انهيار المعنويات العامة في أوساط العسكريين على خلفية تبخر رواتبهم في الثمانية عشر شهراً الأخيرة، بعدما فقدت الليرة اللبنانية تسعين في المئة من قيمتها مقابل الدولار.
ويجب وضع حديث الوزير لودريان عن احتمال انهيار لبنان، في سياق القلق الذي يساور العواصم الغربية بشأن مستقبل الجيش اللبناني، الذي تتحدث التقارير الصحافية والاستخبارية عن ارتفاع نسبة العسكريين الذين لا يعودون الى مراكزهم بعد إجازاتهم، أو الذين قرروا التقاعد المبكر، إضافة الى العدد المتزايد من العسكريين الذين يبحثون عن وظائف ثانية وثالثة.
هذه الصورة القاتمة لمستقبل الجيش اللبناني أكدها العماد جوزف عون في المؤتمر الدولي الافتراضي الذي نظمته فرنسا قبل نحو أسبوعين لمساعدة الجيش، وشاركت فيه الولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى، إضافة الى روسيا والصين، ودول خليجية.
وخاطب العماد عون المؤتمرين قائلاً: “لبنان في حالة سقوط حرّ”، وتابع: “الوضع خطير، وإذا لم تتم معالجته فإن الأزمة المالية والاقتصادية سوف تؤدي حتماً الى انهيار مؤسسات الدولة، بما فيها القوات اللبنانية المسلحة”. وذكّر العماد عون المؤتمرين بأن الجيش هو “الضامن الوحيد للأمن والاستقرار في لبنان … والمؤسسة الموثوقة جداً داخلياً وخارجياً”. وتساءل العماد عون: “كيف يمكن للجندي اللبناني أن يوفّر احتياجات عائلته عندما لا يتعدى راتبه الشهري 90 دولاراً أميركياً؟”. يذكر أنه قبل انهيار الليرة في 2019، كان راتب الجندي اللبناني الشهري يصل الى نحو 800 دولار.
وقبل المؤتمر الدولي لدعم لبنان، قال الجنرال فرانك ماكينزي قائد القوات المركزية التي تشرف على القوات الأمريكية في الشرق الأوسط، إن بلاده ملتزمة مواصلة مساعدة الجيش اللبناني “لأنه يمثل المؤسسة الرسمية اللبنانية التي تنشط جيداً للغاية، ونحن نعتقد أنه يجب أن تبقى التعبير الوحيد عن القوة العسكرية في الدولة اللبنانية”. وكانت واشنطن قد زادت من قيمة مساعداتها السنوية للبنان من مئة مليون سنوياً، الى 120 مليوناً للسنة المالية 2021.
هذا القلق الأمريكي – الفرنسي على مستقبل الجيش، وبالتالي مستقبل لبنان كدولة وشعب، سوف يدفع البلدين، وربما دولاً أوروبية أخرى، لاتخاذ إجراءات جماعية أو أحادية الجانب للضغط على السياسيين اللبنانيين المسؤولين بالدرجة الأولى عن إيصال البلاد الى حافة الانهيار، وبخاصة السياسيين الذين يدورون في فلك “حزب الله”. وللمرة الأولى يتهم التقرير الأخير للبنك الدولي الطبقة السياسية في لبنان بالفساد، وأيضاً باعتماد سياسات مقصودة أدت الى الانهيار المالي.
تصريحات الوزيرين لودريان وبلينكن جاءت بعد أيام من زيارة جوزف بوريل المسؤول عن السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي بيروت، وانتقاداته للسياسيين اللبنانيين المسؤولين لإخفاقهم في تشكيل حكومة جديدة واعتماد خطة للإصلاح المالي والاقتصادي، وقوله إن الاتحاد الأوروبي يتطلع الى “خيارات أخرى” ضد السياسيين اللبنانيين، من بينها “عقوبات تستهدف أفراداً”، مشيراً الى أن تفادي هذه العقوبات هو في أيدي القيادة اللبنانية.
تزامنت الزيارة مع بدء الاتحاد الأوروبي وضع المعايير التي ستستخدم إذا تم فرض عقوبات ضد مسؤولين لبنانيين بتهم الفساد، وانتهاك حقوق الإنسان، وإساءة استخدام المال العام، وعرقلة تشكيل حكومة جديدة. ووفقاً لتقارير صحافية، تم تحويل أكثر من عشرين مليار دولار من لبنان منذ بداية الأزمة المالية الى حسابات في مصارف غربية. ويعتقد أن أي عقوبات أوروبية وربما لاحقاً أميركية سوف تتركز على تجميد أموال السياسيين اللبنانيين المودعة في مصارف أوروبية وأمريكية، لأنها الوسيلة الوحيدة الفعالة لمحاسبة ومعاقبة أفراد الطبقة السياسة اللبنانية على إيصالهم البلاد الى حافة الانهيار الكامل.