افتتاحية صحيفة “الخليج”
الشرق اليوم – الجدل الذي فجّره الرئيس التونسي قيس سعيّد بدعوته إلى إحياء دستور 1959، وإعادة العمل به بعد تنقيحه، يؤشر إلى عمق مأزق النظام السياسي الذي بناه «دستور الثورة» المعلن عام 2014، لكنه سرعان ما بدأ يفرز مشكلات في التطبيق، وسبّب منازعات على الصلاحيات، خصوصاً بين رئيسي الجمهورية والحكومة اللذين يمرّان الآن بشبه قطيعة رسمية إثر الخلافات على تعديل وزاري مازال عالقاً منذ بداية العام.
الأزمة التونسية المزمنة متعددة العوامل والسياقات، وأخطرها انفجار المشهد السياسي الذي شغل جميع الفاعلين بمعاركه، بينما بقيت الاستحقاقات المصيرية للبلاد على الهامش. وبعد نحو عشر سنوات على الإطاحة بنظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، بدأت الأقنعة تتساقط، وينكشف التزييف الواسع الذي طبع العمل السياسي والأجندات غير الواضحة لعدد من الكيانات والأحزاب، وبدلاً من أن يكون التنافس على البرامج وخطط التنمية والرُّقي، بات الصراع منحصراً حول الغنائم السياسية والصلاحيات والنفوذ والمحسوبية، في الوقت الذي يستشري الفقر والفساد في البلاد، طولاً وعرضاً، وتكاد البقية الباقية من الأمل في التغيير تندثر. ورغم أن الوضع حرج وينذر بانفجار اجتماعي كبير، ما زالت الأطراف السياسية عاجزة عن إدراك أن هناك علامات سيئة جداً تهدد استقرار البلاد، وقد تفتح الباب أمام أزمة شاملة في غضون أشهر قليلة، إذا لم يتحقق اختراق فعلي نحو التغيير.
الرئيس قيس سعيّد لم يكن على خطأ حين نادى بضرورة العودة إلى الدستور الأول للجمهورية في بداية الاستقلال، لأنه الوثيقة التي تم على أساسها بناء الدولة الحديثة مع الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، ورفاقه. ورغم ما شاب ذلك العهد من بعض النزعات نحو التسلط وحكم الفرد، إلا أنه كان متقدماً وواضحاً، ويمتلك رؤية ومشروعاً واضحين، بينما الواقع الحالي مختلف تماماً، ولا يعبّر عن اللحظة التاريخية. ومن يطالب بالعودة إلى الدستور الأول، ليس الرئيس سعيّد وحده، بل هناك شرائح واسعة من التونسيين انتبهت لخداع الشعارات الفضفاضة، وأيقنت أن ما حصل في 2011 تحوم حوله الشوائب، ولم ينتج شيئاً غير المعارك التي تخرج، في أغلب الأحيان، عن حدود السياسة والأدب، خصوصاً في البرلمان والمنابر الإعلامية.
قد تكون هذه الأزمة من أخطر ما واجهته تونس منذ الاستقلال، وربما تكون امتداداتها عميقة إذا خرجت عن السيطرة. ومن أجل ذلك تعددت الدعوات إلى إجراء حوار وطني شامل، وأبرز هذه الدعوات صدر عن الاتحاد العام التونسي للشغل الذي مازال قوة رئيسية في البلاد، وأعرق كيان مستمر منذ الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي. ونظراً لتمتعه بقدر عال من المصداقية والوطنية، سيكون دوره حاسماً في إنقاذ البلاد من هذا الوضع، والبت في المعركة الدائرة بين الدستورَين، الحالي والقديم، فمصلحة تونس يجب أن تكون أرفع من كل المصالح والمآرب والدساتير والأحزاب، لأنها الأبقى، والبقية زائلون.