بقلم: حسن إسميك – العرب اللندنية
الشرق اليوم– لدى الرئيس جو بايدن ثلاث أولويات رئيسية في السياسة الخارجية هذا العام. أولها هو التعامل مع التحديات الجيوسياسية والاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية التي تفرضها الصين. وثانيها تحدي احتواء روسيا، التي تحلم بإعادة أمجادها السوفييتية القديمة التي استمرت لعدة عقود. أما التحدي الثالث فيتعلق بإيران، والمتمثل على وجه الخصوص في احتواء برنامجها النووي دون أن يُنظر إلى بايدن على أنه “يسترضي” النظام في طهران، الأمر الذي يمكن أن يكون قاتلا لمصداقيته محليا ودوليا.
وفي الشرق الأوسط، تجتمع هذه التحديات الثلاثة كلها. فالصين قد حققت بالفعل اختراقات اقتصادية ودبلوماسية عميقة في دول مجلس التعاون الخليجي المتحالفة تقليديا مع الولايات المتحدة، إذ أصبحت بكين في 2020 الشريك التجاري الأول لدول مجلس التعاون الخليجي متجاوزة بذلك الاتحاد الأوروبي، إلى جانب أنها تستورد اليوم أكثر من 32 في المئة من نفطها الخام من الخليج العربي، مما يجعلها، مع تزايد حافزها للحلول محل الولايات المتحدة كوسيط قوة رئيسي في المنطقة، تستثمر بشكل متزايد في سياسات الشرق الأوسط.
في الواقع، لا تتوقف خطط الصين للتنافس مع الولايات المتحدة عند المحيط الهادئ، ولا ينبغي النظر إلى صفقاتها الأخيرة مع إيران وتركيا وعُمان والسعودية والإمارات وباكستان بمعزل عن بعضها البعض، بل كعناصر منفصلة تشكل استراتيجية الحزام والطريق التوسعية للصين في الشرق الأوسط.
وتحتفظ روسيا في الوقت نفسه بطموحاتها الجيوستراتيجية في الشرق الأوسط، كما ظهر ذلك جليّا في تدخلاتها في سوريا وليبيا وعلاقاتها الغامضة مع إيران، التي طالما زوّدتها بالتكنولوجيا النووية.
ترى روسيا في المنطقة حديقة خلفية لها، تمنحها عمقا استراتيجيا مهمّا لمواجهة ما تعتبره زحفا أميركيا وغربيا على مناطق نفوذها التقليدية في أوراسيا. ولروسيا أيضا مصالح اقتصادية قوية في المنطقة من خلال عضويتها في منظمة أوبك واعتمادها على صادرات النفط، التي يُحدد الشرق الأوسط أسعارها إلى حد كبير.
وفي الوقت نفسه، لا تزال إيران عازمة على لعب دورها الهائل والتخريبي إلى حد كبير في العالم العربي، وصبّ تركيزها على تقويض نفوذ الولايات المتحدة هناك. حيث تهدف إلى تحقيق ذلك من خلال رعاية الجماعات المسلحة العاملة التابعة لها في جميع أنحاء المنطقة، والتي لا تخضع لأي اتفاق أو قرار أو قانون دولي، ولا تأتمر إلا بأمر مموليها في طهران. تواصل هذه التنظيمات زعزعة استقرار العديد من الدول العربية وإلحاق الضرر بها. ولم يكن تأثيرها السلبي على الأوضاع الإنسانية في هذه الدول بأقل من تأثيرات التنظيمات الإرهابية كالقاعدة وداعش.
ورغم ما يواجهه البيت الأبيض في عهد الرئيس بايدن من تحديات لا يستهان بها في الشرق الأوسط، إلا أنه ثمة مزايا كبيرة أيضا. فدول الخليج ومعظم الدول العربية، وإن لم تعترف صراحة بذلك، ميّالة نحو المحور الغربي، ويرجع هذا الميل جزئيا لأسباب حضارية، إذ لطالما تطلع العالم العربي إلى البحر المتوسط والغرب أكثر من تطلعه إلى الشرق والصين. ولا يزال العديد من العرب ينظرون إلى الغرب على أنه مثال يُقتدى في الكثير من المجالات، وبالتحديد تلك المرتبطة بالحرية والانفتاح. وفي الواقع، رغم ما قد يعتقده الأميركيون من أن تدخلاتهم في الشرق الأوسط لم تُقابل سوى بالعداء، فإن هذا “العداء” غالبا ما ينبع من التوقعات غير الواقعية للتدخلات الأميركية التي غالبا ما أسفرت في نهاية المطاف عن نتائج سيئة أو عكسية.
للولايات المتحدة مزايا أخرى أيضا، فهي غالبا ما نافست روسيا على النفوذ في الشرق الأوسط، لاسيما خلال الحرب الباردة عندما كانت لها علاقات وثيقة مع سوريا والعراق وليبيا ومصر وغيرها. كما أن روسيا تفتقر، مقارنة بأميركا، إلى القوة الناعمة في تعاملها مع دول المنطقة، ولاسيما في تحركاتها الأخيرة.
ثمة أيضا ميزة أخرى تتمتع بها الولايات المتحدة، هي التحول في وجهات النظر العربية تجاه إسرائيل، ليس على مستوى الحكومات فحسب، بل حتى على المستوى الشعبي. إذ يُنظر اليوم بشكل متزايد إلى أن السلام مع إسرائيل هو جزء رئيس من الحل لمجموعة متنوعة من التحديات: منها التحديات السياسية والأمنية التي تفرضها إيران، بالإضافة إلى التحديات الاقتصادية التي تهدّد المنطقة بأسرها. وهذا ما يمكن أن يمنح الولايات المتحدة حرية أكبر للتركيز على قضايا أخرى.
إذن، ما الذي على الولايات المتحدة فعله؟
ينبغي التنبّه في البداية إلى أن الدول العربية، وخاصة دول الخليج، تخشى اندلاع “حرب باردة” جديدة بين الولايات المتحدة من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى، والتي ستجبرها على الاختيار بين هذه المحاور المتنافسة. في الواقع، تخشى دول الخليج بشكل خاص من أنها قد تضطر إلى الاختيار بين شراكة أمنية مع الولايات المتحدة أو شراكة اقتصادية مع الصين. هناك أيضا مخاوف من أن تصبح المنطقة ساحة معركة فعلية بين القوى العظمى المتنافسة، على غرار الحروب التي اندلعت بالوكالة في الحرب الباردة في أنغولا وكوريا وفيتنام. لذلك يجب على الولايات المتحدة أن تعمل على ضمان الحفاظ على علاقاتها مع حلفائها العرب، وتأكيد عباراتها الداعمة بالأفعال، وبالتالي إقصاء الصين من القيام بأي دور سياسي في المنطقة.
أما الخطوة الرئيسية الثانية فتتمثل في أن تقوم الولايات المتحدة بإشراك العرب في المفاوضات مع إيران التي تتسبب أفعالها بالكثير من المشاكل في المنطقة، خاصة وأن سياسات طهران المستقبلية ستكون حاسمة بالنسبة إلى المنافسة الأوسع بين الولايات المتحدة والصين وروسيا. وهذا يعني ضرورة إشراك الدول العربية، وعلى رأسها مصر ودول مجلس التعاون الخليجي بشكل أوثق بشأن المفاوضات مع إيران، والتأكد من معالجة المخاوف الإقليمية بشأن الفصائل والتنظيمات العسكرية التي تعمل بالوكالة عن إيران، والتي تزعزع الاستقرار في الدول العربية.
كما تحتاج الولايات المتحدة بشكل منفصل، إلى إشراك إسرائيل في أي تسوية عربية – إيرانية، لأن إسرائيل لن تقف مكتوفة الأيدي في حال حدوث تقارب عربي – إيراني – أميركي، خاصة إذا لم يأخذ هذا التقارب مخاوف إسرائيل وقلقها من التهديدات العسكرية الإيرانية في الحسبان، سواء كانت هذه المخاوف قريبة منها؛ على الحدود الجنوبية للبنان، وسوريا أو حتى بعيدة كتلك التي تتعلق ببرنامج إيران النووي. أخيرا، تحتاج الولايات المتحدة أيضا إلى رعاية الحوار بين الدول العربية وتركيا، فالأخيرة حليف رئيسي للولايات المتحدة، ولكنها على خلاف مع العديد من دول مجلس التعاون الخليجي.
إذا نجحت الولايات المتحدة في المواءمة بين حلفائها العرب وإسرائيل والتوصل مع إيران إلى حل وسط تُطمئن به حلفاءها، فيمكنها حينئذٍ تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط واستبعاد الصين وروسيا من اكتساب ميزة اقتصادية متزايدة هناك. ومع ذلك، فإن المخاطر كبيرة، إذ أن أي زلة قد تمنح الصين فرصة لتوسيع نفوذها في المنطقة على حساب واشنطن والغرب. وبالمثل، سيؤدي الفشل في احتواء إيران إلى المزيد من زعزعة الاستقرار في المنطقة، ويقوض بشكل كبير ثقة العرب في الولايات المتحدة، ويضر بمصداقيتها في جميع أنحاء العالم، ويعزز في الوقت ذاته موقف كل من روسيا والصين.