بقلم: هشام ملحم – النهار العربي
الشرق اليوم – بعد ربع قرن من ملاحقة التنظيمات الإرهابية ومكافحتها في العالم، من تنظيم “القاعدة” الى “داعش” وإعلان “الحرب ضد الإرهاب” العالمي، ما أدى الى التورط في أطول حربين في تاريخ الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، أعلنت ادارة الرئيس جو بايدن قبل أيام أنها ستركز جهودها ومواردها على مكافحة إرهابيي الداخل.
تزامن هذا الإعلان، مع ازدياد وتيرة الانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان، بعد أن قاتل جيلين من المحاربين الأميركيين في جبال ووديان تلك البلاد التي عصت على كل الجيوش التي اجتاحتها عبر العصور. مع حلول شهر أيلول (سبتمبر) المقبل، لن يبقى محارب أميركي واحد في تلك البلاد التي لم تعرف السلم الأهلي منذ أوائل سبعينات القرن الماضي، والتي من المرجح أن تنزلق مرة أخرى الى جولة جديدة من تصفية الحسابات بحد السكين.
وكان الرئيس بايدن قد طلب في اليوم الثاني بعد وصوله الى البيت الأبيض من مدير الاستخبارات الوطنية، والذي ينسق نشاطات كل أجهزة الاستخبارات الأميركية، العمل مع مكتب التحقيقات الفدرالي الـ”أف بي آي” ووزارة الأمن الوطني إجراء تقويم شامل للأخطار التي يمثلها التطرف العنيف الداخلي في مؤشر واضح على أولوية هذا الخطر بالنسبة إلى إدارة بايدن بعد اقتحام مبنى الكابيتول في 6 كانون الثاني (يناير) الماضي بالقوة من قبل عناصر متطرفة من مؤيدي الرئيس السابق دونالد ترامب. وكما أظهرت التحقيقات حتى الآن شارك في هذا الهجوم عناصر تنتمي الى ميليشيات عنصرية مسلحة مستعدة وقادرة على استخدام العنف لتحقيق أهدافها، ومن بينها “إعادة” ترامب الى البيت الأبيض لاعتقادها الباطل إنه لا يزال الرئيس الشرعي، وأن بايدن والديموقراطيين “سرقوا” الرئاسة منه.
وقبل أيام أعلن مجلس الأمن القومي عن “الاستراتيجية الوطنية لمواجهة الإرهاب الداخلي”، في وثيقة من 32 صفحة، تتضمن توصيات قوية تشمل توظيف المزيد من المحللين الاستخباراتيين، والتدقيق بخلفيات الموظفين الحكوميين، بعد أن تبيّن وجود عدد كبير نسبياً من المشاركين في اقتحام الكابيتول من الجنود أو أفراد الشرطة المتقاعدين.
وقال الرئيس بايدن في رسالة نشرت كمقدمة للتقرير: “لا نستطيع تجاهل هذا الخطر أو أن نتمنى غيابه. منع الإرهاب الداخلي وتقليص العوامل التي تؤججه يتطلبان ردوداً متعددة الجوانب من مختلف الأجهزة الحكومية الفدرالية وما أبعد من ذلك”. ويشير التقرير إلى أن ظاهرة الإرهاب الداخلي قوية ومترسخة “وفي حالة تطور”. والإرهاب الداخلي يشمل طيفاً من الدوافع الأيديولوجية العنيفة بما فيها أشكال التعصب الإثني والعنصري، إضافة إلى المعادين للحكومة الفدرالية. كما أن أشكال التعبير عن هذا الإرهاب متنوعة، وتتراوح بين الأفراد الذين يمارسون العنف بمفردهم، أو في جماعة صغيرة، أو شبكات أوسع تسمي نفسها “ميليشيات”.
وتهدف هذه الاستراتيجية الجديدة إلى تحقيق تنسيق أفضل بين مختلف الأجهزة الحكومية يشمل مشاركة المعلومات بين الأجهزة الأمنية والتصدي لمحاولات هذه الجماعات المتطرفة تعبئة عناصر جديدة، والتصدي لجذور الإرهاب الداخلي وأبرزها العنصرية والتعصب.
هذا التركيز على الإرهاب الداخلي ومصادره وسبل مكافحته ليس مفاجئاً لأن الأجهزة الأمنية وفي طليعتها الـ”أف بي آي” تحذر منذ سنوات، وبخاصة خلال ولاية الرئيس السابق ترامب من الإرهاب الداخلي الذي تقوده جماعات عنصرية تؤمن بتفوق العنصر الأبيض وصيانة بقاء السلطة في أيدي المسيحيين المتحدرين من أصول أوروبية. وفي أكثر من شهادة علنية في الكونغرس، كان مدير الـ”أف بي آي”، كريستوفر راي، الذي عينه ترامب في منصبه، يركز على أن الإرهاب الداخلي هو الخطر الكبير الذي تواجهه البلاد الآن. تصريحات وتأكيدات كريستوفر راي، لم تلقَ صدى إيجابياً لدى ترامب الذي كان يدعي مع أنصاره أن حركة “حياة السود مهمة”، وتنظيمات يسارية أخرى هي الخطر الداخلي الأبرز.
دعم الرئيس ترامب للمسلحين المتطرفين المنتمين الى الميليشيات، وقوله علناً في 2017 أن تظاهرة من النازيين وغيرهم من العنصريين كانت تشمل “عناصر جيدة”، وتركيزه على النشطاء السود، جعل من الصعب على الأجهزة الحكومية مراقبة وتعقب هذه العناصر لتجنب غضب ترامب الذي كان يلجأ الى إقالة المسؤولين الذين يناقضونه. ولم يكتف ترامب بذلك، بل طلب من الأجهزة الحكومية أن تركز مواردها وطاقاتها على مراقبة وتعقب الجماعات اليسارية، على الرغم من أن الأجهزة الأمنية كانت تصر على أن مصدر الخطر الداخلي الحقيقي، هو خطر اليمين الديني والمتطرف.
وهذا ما أشار إليه الرئيس بايدن في رسالته المنشورة في بداية التقرير حيث عدّد هجمات المتطرفين العنصريين البيض ضد كنائس السود كما حدث في مدينة تشارلستون، والهجوم الذي قام به رجل معادٍ لليهود ضد كنيس في مدينة بيتسبيرغ، وكذلك الهجوم الذي قام به شاب ضد محل تجاري في مدينة الباسو وقتل وجرح العشرات من اللاتينيين.
ولكن هذه الاستراتيجية تواجه عقبات قانونية وسياسية عدة. وعلى سبيل المثال التقرير لم يوصِ، كما توقع البعض بصياغة قانون واسع يتم في سياقه مكافحة الإرهاب الداخلي. ومكافحة إرهاب الخارج أسهل على الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، لأن هذه الأجهزة ليست مضطرة لتفادي انتهاك حقوق الإرهابيين في الخارج حين تراقبهم وترصد مكالماتهم وتتجسس على نشاطاتهم. هذه الأجهزة الأمنية لا تستطيع على سبيل المثال رصد المكالمات الهاتفية لأي أميركي من دون الحصول على أمر قضائي مسبق ويجب أن يتضمن الأسباب المقنعة لمثل هذا الرصد. هذه الاعتبارات غير موجودة في الحرب ضد إرهاب الخارج.
ولكن المشكلة الأكبر التي ستواجه تطبيق توصيات هذه الاستراتيجية الجديدة، هي معارضة الجمهوريين في مجلسي الكونغرس لتعقب هذه العناصر اليمينية المتطرفة. هذه المعارضة الجمهورية برزت في شكل سافر حين رفض الجمهوريون في مجلس الشيوخ اقتراح ديموقراطي بتشكيل لجنة مستقلة تحقق بأسباب ومضاعفات اقتحام الكابيتول. الجمهوريون تذرعوا بوجود تحقيقات قضائية ولا داعي للجنة مستقلة. ولكن السبب الحقيقي هو قلق الجمهوريين من أن تقوم مثل هذه اللجنة، التي ستكون لها ميزانيتها واستقلاليتها ويشمل انتدابها استدعاء الشهود للمثول أمامها، وأن تكشف ضلوع جمهوريين كثر في الاقتحام بمن فيهم ربما بعض أعضاء مجلس النواب.
بعد ربع قرن من مكافحة إرهاب البرابرة خارج أسوار المدينة، أكتشف الأميركيون، أن مدينتهم مخترقة وأن البرابرة أصبحوا منهم وبينهم.