بقلم: محمد الرميحي – النهار العربي
الشرق اليوم – اعتاد متابعون لأخبار إيران السياسية القول إن هناك “ثنائية” في الفضاء السياسي الإيراني، بين فريقي المحافظين والإصلاحيين. والقول كما يبدو لكثيرين قريب الى الصحة في الظاهر، وتذهب هذه المدرسة التحليلية الى القول إنه بفوز إبراهيم رئيسي في الانتخابات التي أجريت في 18 حزيران (يونيو) 2021 اندمجت تلك الثنائية في أحادية. تلك المقولات تحتاج إلى شيء من التدقيق.
كان في بعض تاريخ الجمهورية الإسلامية في الأكثر قليلاً من أربعة عقود ما يبدو أنه ثنائية في الحكم، ولكن كانت ثنائية فيها على الأقل: ثمانون في المئة تشدد، وعشرون في المئة إصلاحيون، وحتى مساهمة الإصلاحيين في القرار ومن خلال العديد من التصريحات المنسوبة لذلك الفريق، كانت مساهمتهم في اتخاذ القرارات الكبرى التي تمت في الجمهورية هي قريبة من الصفر.
ما يمكن وصفه في شرح الحال الإيراني أن ما بُني من نظام هو أقرب الى “الثيوقراطية الأمنية”، وكانت تلك الثيوقراطية تسمح بالقليل المظهري “التجميلي”، ما يتيح القول إن هناك جناحاً إصلاحياً صدّقه بعض الساسة في الغرب وبنوا عليه آمالاً تبيّن أنها مبنية على فراغ. لو قرأنا الدستور الإيراني الذي وضع في بداية الحكم لتهيأ لمن يقرأ أن من كتبه فريقان وليس فريقاً واحداً، أحدهما “عصري نوعاً” والثاني “بالغ الثيوقراطية”، وسرعان ما تجاوز الأخير نسبة الأول في التطبيق الفعلي بعد تعديلات في صلب الدستور وعدد من التصفيات السياسية على الأرض. على سبيل المثال لا الحصر، تنص المادة 115 من الدستور أن شرط المرشح للرئاسة أن يكون من الرجال المتدينين والسياسيين. ويضيف مجلس صيانة الدستور شروطاً أخرى منها أن يكون حائزاً على شهادة الماجستير أو ما يعادلها! وقد تم تجاوز هذا الشرط أخيراً. اذاً كيف يمكن تكييف الانتقال من “الثنائية” الشكلية إلى “الأحادية الواقعية”؟ المفتاح هو ما شهدناه من السعي الحثيث لإفساح المجال لانتخاب إبراهيم رئيسي من خلال تصفية المرشحين حتى الأقربين.
من الواضح أن هناك عدم ثقة أو حتى خوف من أن استمرار الوضع الحالي الإيراني واحتمال التخلص في المستقبل من “الثيوقراطية” مفرطة، عندما يغادر المشهد أولئك الذين رافقوا التغيير في عام 1979 وشهدوا المعارك في السباق على تسلم السلطة والتصفيات التي تمت وقتها. طبيعة المجتمعات هو التغير وليس الثبات، وأي مجتمع تعتقد نخبته أن الثبات يمكن صناعته بأدوات مختلفة، إما بالاقناع الأيديولوجي أو الإغراء المصلحي أو القمع السياسي، فهي في الغالب واهمة، لأن دينامية المجتمع وتعاقب الأجيال وتطور التقنية وتغير الأولويات تجعل من طالب التغيير معطى انسانياً طبيعياً. تصفية المرشحين الذين كان من الممكن بوجودهم في سباق الرئاسة الحفاظ على مظهر الثنائية الشكلية هو إشارة الى القلق الذي ينتاب القمة الحاكمة في طهران حول ماذا يحمل المستقبل؟ وتعتقد بانتخاب رئيسي، على ما يحمل من خلفية متشددة أصبحت معروفة وما عليه من عقوبات دولية خاصة بحقوق الإنسان، يضمن في شكل ما استمرار النظام الثيوقراطي الأمني كما هو.
من المرجح اعتماداً على السياسات العامة الخارجية التي سوف تتبعها حكومة رئيسي أن يتوجه النظام إلى تشددين: داخلي وخارجي. في الداخل استمرار القبضة الأمنية، وهي ظاهرة اليوم حتى في عدم احتجاج من استبعدوا من الدخول في سباق الرئاسة، وقد يفجر ذلك التشدد غضباً شعبياً تختلف درجاته في التصاعد، ورفد التشدد الداخلي بتشدد خارجي يغازل “الفخر القومي والمذهبي” والذي استخدم في السابق حتى كاد رأسماله أن ينفذ مع الأجيال الجديدة. ذلك التشدد قد يطلق ديناميات دولية جديدة تنحو أكثر لمساعدة المتضررين في الداخل، وهو الأمر المتاح في ظل تصاعد المعارضة الداخلية والخارجية للنظام واستمرار العقوبات من جهة والقمع من جهة أخرى.
قد يكون النظام الإيراني اعتمد بعد العقوبات على بناء اقتصاد شبه مستقل في الداخل، إلا أن ذلك الاقتصاد يتآكل بسرعة تحت ضغط الفساد المستشري وتسلط العسكرية الشعبية، فليس من المؤمل في أن يقف الاقتصاد الإيراني على رجليه، كما فعلت نسبياً اقتصاديات أخرى واجهت عقوبات ولكنها اجتثت الفساد وامتنعت عن توزيع المنافع بين المتنفذين. في المنطقة، الاحتمال أن نشهد استعار الحركة إيرانياً في الساحات المجاورة، تحت شعارات مختلفة تتبناها أذرع إيران النشطة أو الخاملة في المنطقة من أجل إثارة الكثير من عدم الاستقرار خدمة لاستراتيجية “الابتزاز” وهي الذهاب الى العمل على التخصيب الكامل للوصول إلى القدرة العسكرية النووية! ذلك كله سيناريو متشائم، ولكن ممكن الحدوث في ضوء عقلية “الثيوقراطية الأمنية” التي من المحتمل أن تزداد تشدداً كما يظهر من قراءة المعطيات التي تتشكل أمامنا والعودة إلى الأيام الأولى. المأزق أن الزمن تغير والشعب الإيراني كذلك!