بقلم: محمد السماك – الاتحاد الإماراتية
الشرق اليوم– بين عامي 1562 و1598 عرفت فرنسا ثلاثة حروب دينية بين الكاثوليك والبروتستانت (الإنجيليين). ذهب ضحية تلك الحروب حوالي ثلاثة ملايين شخص، قبل أن تضع أوزارها عندما قرر الملك الفرنسي هنري الرابع التحوّل من الإنجيلية إلى الكاثوليكية. ومن ثم دعوته إلى إقامة قدّاس (صلاة) في باريس على قاعدة الإيمان الكاثوليكي. بعد ذلك أقرّ وثيقة «نانت» (اسم مدينة فرنسية) التي نصّت على الاعتراف بالبروتستانتية ديناً، وعلى منح البروتستانت حق ممارسة شعائرهم بحريّة. وبذلك توقّف القتل على الهوية الدينية في باريس وفي المدن الفرنسية الأخرى، واستعادت فرنسا من جديد وحدتها الوطنية.
لم تكن عملية تحوّل الملك هنري الرابع من الإنجيلية إلى الكاثوليكية أمراً سهلاً. فقد استغرقت العملية عدة عقود سقط خلالها عشرات الآلاف من الضحايا. إلا أنه في ضوء تمذهبه الكاثوليكي، وفي ضوء خلفيته البروتستنتية، تمكّن من إقرار «وثيقة نانت»، التي من دونها ما كان للحرب الدينية أن تتوقف.
ومع ذلك كان على فرنسا أن تنتظر حتى عام 1905 لطيّ صفحة الصراعات الدينية، إذ أقرّت في ذلك العام قانون العلمنة، وهو قانون يفصل بين الدين والدولة فصلاً كاملاً، ويعطي المواطن الفرنسي –كمواطن- حقاً فردياً في اعتناق الدين الذي يريد، وأن يمارس هذا الحق بكل حرية دون تدخّل من أي جهة. ومنذ ذلك الوقت أيضاً أصبحت كل ممتلكات الكنيسة (الكاثوليكية والإنجيلية)، من أديرة وكنائس وكاتدرائيات، ملكاً للدولة.
يختلف ذلك جوهرياً مع الوضع السائد في الولايات المتحدة، حيث يقسم الرئيس الأميركي اليمين بعد انتخابه على الإنجيل، وعلى يد أحد القساوسة الإنجيليين. لم تعرف الولايات المتحدة منذ قيامها سوى رئيس كاثوليكي واحد هو جون كندي. وهي اليوم تتعرف على الثاني، وهو جو بايدن. لم يكمل كندي فترة رئاسته، إذ تعرّض لعملية اغتيال في تكساس الإنجيلية المتشددة لا تزال خلفياتها غير معروفة –أو غير معلنة– حتى اليوم. ويواجه بايدن حملةً مناهضة له وصلت إلى حد اجتياح الكونغرس نفسه.
اهتاج المجتمع الأميركي عندما وصل إلى البيت الأبيض باراك أوباما بخلفيته العرقية ( من أصول أفريقية)، وبخلفيته الدينية (كان والده مسلماً واسمه حسين)، فكانت ردة الفعل تأييد دونالد ترامب الذي تبنّت ترشيحه الحركة الصهيونية المسيحانية الإنجيلية، لذلك اختار ماك بنس نائباً له وهو أحد قادة هذه الحركة.
ورغم خلفية ترامب الاجتماعية المعروفة، فقد التزم بالتقليد الديني الإنجيلي بإقامة صلاة (قداس) صباح كل يوم في البيت الأبيض، بمشاركة كبار الموظفين.. وبرئاسة أحد القساوسة الإنجيليين.
هذه الثوابت الدينية في الولايات المتحدة تواجه اليوم خطراً مصدره الهجرة من دول أميركا الوسطى والجنوبية.. ذلك أن الأكثرية الساحقة من هؤلاء المهاجرين ليسوا فقط من أصول أفريقية أو ملونين، ولكنهم كاثوليك أيضاً. ومن هنا الشعور بالخوف على الطابع الأنجلوساكسوني الإنجيلي الذي يعتبر العمود الفقري لهوية الولايات المتحدة. وهو الخوف الذي وصفه صمويل هانتنغتون بالقنبلة الاجتماعية الموقوتة التي تهدد المجتمع الأميركي بالانفجار من الداخل.
ومن هنا يأتي السؤال: هل يستطيع الرئيس الأميركي الحالي (الكاثوليكي) الاطلاع بدور الملك الفرنسي هنري الرابع في منع وقوع حرب أهلية على خلفية دينية؟
لا يحتاج الرئيس بايدن بالضرورة إلى التحول نحو الإنجيلية ليتمكن من ذلك. فعالم القرن الحادي والعشرين مختلف عن عالم القرن السادس عشر، والولايات المتحدة اليوم هي غير فرنسا الأمس.
إلا أن المجتمع الأميركي يحتاج بالتأكيد إلى ثقافة وطنية جامعة تحترم مبدأ المساواة بين جميع المواطنين على قاعدة احترام الاختلافات العنصرية والدينية. لكن هذه الثقافة التي يقول بها الدستور الأميركي لا تعكسها عملية اجتياح الكونجرس!