بقلم: إميل أمين – الشرق الأوسط
الشرق اليوم – خلال خطاب أخير لكمالا هاريس، نائب الرئيس الأميركي، بمناسبة تخرّج الملتحقين بالأكاديمية البحرية لمدينة أنابوليس بولاية ماريلاند، أشارت إلى دخول العالم حقبة جديدة تتسم بتهديدات غير مسبوقة، في مقدمها تهديدات الأمن السيبراني من الدول والجهات المستقلة.
لم تعد المخاوف تتأتى من قبل الجيوش المعادية فقط، بل باتت الجماعات المارقة، لا سيما القراصنة في الفضاء الإلكتروني، قادرين على إلحاق كبير الضرر بالعالم.
الذين قُدّر لهم متابعة لقاء القمة في فيلا لاجرانج السويسرية، بين الرئيسين الأميركي بايدن والروسي بوتين، أدركوا خطوة اللحظة الآنية على صعيد التهديدات الخفية الحادثة في العالم الماورائي، الرقمي الموازي، الذي أضحى فيه من الممكن لعصابة من المخترقين أن تعطل إمدادات الوقود لساحل بأكمله، كما حدث مع شركة «كولنيال بايبلاين» الأميركية، في أوائل مايو (أيار) الماضي، ما أصاب نحو 17 ولاية أميركية بالشلل، ففي بلد كالولايات المتحدة، حين يتوقف تدفق الوقود، تكاد الحياة كذلك أن تتوقف، ما جعل البيت الأبيض يعلن حالة الطوارئ في تلك الولايات.
في العالم المغاير، لن تُراق الدماء في الحروب غالباً بطريق مباشر، وإن كانت الخسائر حكماً ستشمل الأرواح تباعاً، ذلك أن الجميع، دولاً وجماعات، سوف يتسابقون للحصول على ما يُعرَف بـ«مفتاح التشغيل»، والسيطرة عليه من خلال «فيروس الشلل».
نعني بمفتاح التشغيل الدوائر الإلكترونية التي تتحكم في إدارة الشبكات، من بنى تحتية، مثل شبكات الكهرباء، والمياه، والجسور، والمطارات، والقواعد العسكرية، وغيرها. أما فيروس الشلل، فهو كلمة السر في الحروب المستقبلية، ومَن يحصل عليه يمكنه أن يوجه ضربة قاتلة لخصمه، ومن غير أن يحدث دماراً أولياً، كما الحال في الضربات العسكرية، أو يسيل قطرة دماء.
قبل القمة الأخيرة جرى سجال علني بين موسكو وواشنطن؛ فقد صرح بوتين بأنه يمكن أن يسلم القراصنة الروس إلى الأميركيين في حالة واحدة فقط، أي حين يقوم الجانب الأميركي بدوره بتسليم القراصنة الأميركيين، وهو شرط تعجيزي ولا شك، لكنه يبيّن خطورة المشهد الذي كان العالم يعتبره إلى حد قريب ضرباً من ضروب الخيال العلمي، أو ذهبت هوليوود إلى تقديمه بوصفه دراما سينمائية.
ولعل الناظر إلى السنوات الأربع الماضية، وبالتحديد من عند الانتخابات الرئاسية الأميركية في 2016، يوقن بأن هناك فصلاً جديداً من فصول الحروب التي لا تُراق فيها الدماء قد استهلّ، والجميع يتذكر الاتهامات الأميركية للروس بتدخلهم في ترجيح كفة دونالد ترامب في مواجهة هيلاري كلينتون.
لاحقاً، وفي نهاية العام الماضي، تعرضت واشنطن إلى هجمة سيبرانية قاتلة لا تُصد ولا تُرد، خصوصاً وزارتي الخزانة والتجارة، وأعقبها سلسلة من تلك الهجمات طوال الأشهر الخمسة الماضية، ما جعل بايدن يتوعد بالرد القاسي، لا سيما أن الجميع قطع بأن روسيا هي مصدر التهديد، وسواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، بمعنى توفير الحماية للهاكرز القائمين على أراضيها.
لم يعد مفاجئاً إذن أن تقوم غالبية جيوش العالم بتخصيص قيادة جديدة للمواجهات الإلكترونية، وقد أقرت وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي، بأن الهجمات السيبرانية التي تعرضت لها فرنسا زادت أربع مرات، في غضون عام واحد.
أما الولايات المتحدة، فقد أجرت في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي محاكاة مستقبلية تصور فيها العسكريون الأميركيون صراعات القرن الحادي والعشرين كحروب شبكية تُشنّ على الأرض وفي الجو، وكذلك في الفضاء والفضاء الإلكتروني.
في عالم الحروب بلا دماء تضع واشنطن بكين نصب أعينها، وهي تعرف أن الموقعة القائمة والقادمة معها، بأكثر مما هي تجاه موسكو، وربما كان هدف القمة الأميركية الروسية الأخيرة هو محاولة تحييد روسيا، وفك وصالها المشدود بقوة مؤخراً مع الصين.
في بكين اليوم ينظرون إلى حروب القرن الحادي والعشرين على أنها منافسة بين العديد من الأنظمة التشغيلية المتعارضة بأكثر من مواجهات جيوش، وهذه هي عقيدة أو نظرية «النصر الحالية» لجيش التحرير الشعبي الصيني.
هل الحرب السيبرانية فقط من سيغير مواجهات المستقبل؟
حتى وقت قريب اعتبرت الطائرات المسيرة «الدرونز»، فتحاً مثيراً مبدلاً ومعدلاً لأوضاع حروب الأجيال المقبلة، لكن يبدو أن هناك اختراقاً آخر بات يتمثل في عالم الروبوتات. ففي تقرير أخير لها تخبرنا صحيفة «ديلي إكسبريس» البريطانية الشهيرة بأن موسكو وبكين تتعاونان لإنشاء ترسانة مرعبة من الأسلحة الروبوتية التي تسبب القلق في جميع أنحاء العالم. لم يتوانَ وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، بدوره عن التصريح بأن بلاده بدأت في إنتاج روبوتات قتالية، أي مخلوقات رهيبة مصطنعة قادرة على القتال بمفردها.
ومن جانب آخر، فإن الاستراتيجيين العسكريين الروس يولون الآن اهتماماً خاصاً بإنشاء ما يسمى «التفوق المعلوماتي في ساحة المعركة»، وهنا فإن الذكاء الصناعي يعد بإتاحة إمكانية استخدام البيانات المتاحة في ساحة المعركة لحماية قوات الجيوش الروسية، وحرمان العدو من هذه الميزة.
لا تقف واشنطن ساكنة، فقد غردت الكتيبة «780» في سلاح البر الأميركي مؤخراً بما يلفت الانتباه إلى أن واشنطن قد دخلت مؤخراً في حرب دون دماء، مع جماعة «دارك سايد»، وهي منظمة يروج لها الإعلام الأميركي بأنها تقف وراء الهجوم الأخير على شركة النفط الأميركية، وإن كان لا أحد يعرف مقرها، فإن الأصابع تتجه لروسيا، وتم تعطيل خوادم قراصنتها.
البشرية إذاً أمام مفترق طرق مفصلي، ولا يبدو الرشد سيد الموقف… آفة حارتنا النسيان.