بقلم: حميد زناز – العرب اللندنية
الشرق اليوم- ازدادت حوادث العنف بين المراهقين في فرنسا وأدى الأمر إلى سقوط الكثير من الأرواح في شوارع مدن عديدة، حيث يتم تقديم شكوى كل دقيقتين في مركز شرطة بسبب عنف في الشارع وكل مواطن معرض للاعتداء في كل وقت.
يوري، 15 سنة، تعرض للضرب الوحشي في باريس من طرف مجموعة مراهقين وقد نجا بأعجوبة بعد أيام من الغيبوبة والإنعاش في المستشفى. أليشا المراهقة قتلت وهي لم تتجاوز 14 سنة ورميت في نهر السين من طرف زميل وزميلة لها في القسم. ماتيو، 17 سنة، قتل بالسلاح الأبيض في شاميني سور مارن. في يوم 14 يونيو الماضي لقي شاب يبلغ من العمر 16 سنة حتفه في مدينة روان في قتال بين عصابتين من حيين متنازعين منذ سنوات، شارك فيه أكثر من 50 مراهقا.
تلك عينة من اعتداءات دامية لا تنتهي بين عصابات من المراهقين تخلف ضحايا كل يوم. وحسب وزارة الداخلية الفرنسية تم إحصاء 357 مواجهة بين عصابات شباب سنة 2020 بزيادة 25 في المئة عن عام 2019، وهذا دون الأخذ في الاعتبار المواجهات والشجارات العنيفة غير المسجلة والتي أصبحت ظاهرة يومية في أحياء الضواحي وحتى في وسط بعض المدن.
تقول الدراسات إن الأطفال من عائلات فرنسية أو أوروبية يمثلون أقل من عشرين في المئة من الحالات التي يتم تسجيلها.
وفي أغلب الأحيان هو عنف مجاني، بمعنى اعتداءات جسدية بلا سبب ظاهر. كل مواطن معرض اليوم للموت بسبب نظرة عادية لم تعجب أحدهم، أو رفض إعطاء سيجارة لآخر.
فمن هم هؤلاء الشبان؟ وهل لعنفهم المجاني علاقة بسكنهم في غيتوهات الضواحي الفقيرة؟
لم تعد الكلمة مجدية في أي خلاف مهما كان تافها، وتعوّض غالبا باستعمال المدية وعصا البيسبول، وقد يصل الأمر لاستعمال السلاح الناري. إذ يصبح الاندفاع سيد الموقف، والآخر مجرد كائن يمكن أن يفرغ فيه التوتر الآني والعقد النفسية، وهذا هو التوحش عينه.
من العوامل الكثيرة التي ساهمت في تفشي الظاهرة سلبية القضاء تجاه الاعتداء الأول الذي يقوم به المراهق، والذي كثيرا ما يعاقب بالسجن غير النافذ مدة قصيرة بدعوى أنه قاصر ودون سوابق. وهكذا تفتح له الطريق ليعيد الاعتداء مرة أخرى، بل مرات. وهو ما يعكّر العلاقة منذ سنوات بين قوى الأمن والقضاة في فرنسا.
دأب الإعلام الفرنسي وأغلبية السياسيين، اليسار بصفة خاصة، على تفسير ظاهرة عنف المراهقين الوحشي بردّها إلى عيش هؤلاء المراهقين في ضواحي المدن الكبرى، في أحياء فقيرة مهمشة وبسبب ما يعانونه من تمييز. فما مدى صحة ذلك؟
في كتابه “عن العنف المجاني في فرنسا.. مراهقون مفرطون في العنف، شهادات وتحليل”، يدحض موريس بيرجي هذا الاعتقاد ويقدم مقاربة جديدة مخالفة للمعهود تكشف عما يدور في أذهان ولاوعي هؤلاء الذين سكنهم العنف الوحشي. مقاربته بنيت على تجربته مع عينة من هؤلاء المراهقين كطبيب مشرف على حالات محددة منهم. وهي رؤية بعيدة كل البعد عن الخطابات الإعلامية والسياسية والسوسيولوجية التقليدية الحالية.
يشدد الباحث على دور التفكك الأسري الذي تعيشه بعض العائلات الأجنبية الآتية من أفريقيا ومن البلدان المغاربية وكوسوفو وألبانيا والغجر بصفة عامة. ثقافات يقول إنها تقبل عدم المساواة بين الرجل والمرأة وكثيرا ما يضرب الزوج زوجته أمام مرأى ومسمع أبنائه الصغار. 69 في المئة من المراهقين العنيفين تعرضوا لمشاهد عنف منزلي خلال العامين الأولين من حياتهم. وحملوا في داخلهم تلك الصورة العنيفة للأب، والتي سرعان ما تطفو على السطح كلما تم لمسهم دون قصد. حتى الأمهات أنفسهن عشن في كثير من الأحيان طفولة كارثية لدرجة أصبحن معها غير قادرات على الابتسام لأطفالهن والتحدث إليهم وفهم متى ينبغي طمأنتهم من خلال العناق أو اللمس. ولأن اللعب كان غذاء النمو النفسي فإن الوالدين لا يلعبان كثيرا مع أطفالهما الصغار، فلا يتعلم هؤلاء التمثيل والتظاهر عبر اللعب ويصلون إلى مرحلة المراهقة بتفكير بسيط فقير، خال من الخيال.
دون العيش في سكينة خلال أعوامهم الأولى، يفشل الأطفال في تنمية تفكيرهم. ويصبح لديهم تأخر لغوي وبالتالي يجدون صعوبة في التعلم. ومن هنا لا يطورون أي قدرة على التحكم بردود أفعالهم وما ينجرّ عنها، ويكونون غير قادرين على التعاطف مع ضحاياهم. ولا يتطور لديهم مفهوم السببية ويصبحون شديدي الحساسية تجاه أي شيء غير متوقع كما لا يتطور لديهم أي فضول حول الآخرين أو حول حتى أنفسهم. ويهابون الاختلاف عن مجموعتهم الإثنية أو الدينية.
هم غير قادرين على استعمال الكلمات وعاجزين عن التفكير. فالتفكير بالنسبة إليهم هو عودة إلى صور الخوف والوحدة المرعبة التي عاشوها في طفولتهم الأولى. يعيشون فقط في الحاضر للهرب من الذكريات القاسية التي تتزاحم في وعيهم ولاوعيهم. ويبقون في هذا الحاضر الذي لا يحبون عاجزين عن مواجهة المستقبل.
ولإخفاء ذعرهم وفشلهم، ينفجرون في أعمال عنف وعدوان. فعندما يفشلون في التركيز والاستماع ومتابعة الدروس أو التزام الصمت، يفضلون “التشويش على الدروس” لتحرير أنفسهم من مشاعر الفشل والخزي.
بسبب ثقافتهم الأصلية، حيث يتم الزواج غالبا في البلد الأصلي ومن نفس القرية أو من نفس العائلة في المهجر، يوجد بالضرورة العديد من الزيجات بين الأقارب، وهذا يطور نقاط ضعف وراثية تتفاقم بسبب البيئات الأبوية العنيفة، مما يخلق قنابل بشرية.
المجموعة في المجتمعات العشائرية أهم من الفرد، إذ أن الهدف ليس أن يتعلم الطفل كيف يفكر بنفسه، بل على العكس، المطلوب هو التشابه في الفكر والسلوك مع أعضاء مجموعته. ولهذا السبب يعتبر هؤلاء المنحرفون المعلم والشرطي عدوين لأنهما يعارضان الجماعة الإثنية ويريدان تعديل قواعدها الثقافية الخاصة بها. لذلك يرفضون الاندماج، لأنهم يعتقدون أنهم إذا تخلوا عن مجتمعهم المصغّر، فإنهم سيفقدون كل شيء. الانتماء إلى المجموعة الإثنية هو الأساس لا قواعد الحياة في المجتمع ولا اعتبار أخلاقيا تجاه من يكون خارج المجموعة.
“عادي”، تلك هي الكلمة التي تردد مرارا في تفسير أفعالهم خلال أحاديثي معهم، يكتب الطبيب المختص. يقول أحد المراهقين “شعرنا بالملل، فأضرمنا النار في أحد المستودعات”.
التخريب كالضرب هو لعب الذين لا خيال لهم، بل إن اللعبة الوحيدة لديهم هي المخاطرة، لعبة “اضرب واهرب” التي غدت كالإدمان. وبسبب عدم قدرتهم على التفكير في ما فعلوه، فإنهم يعتبرون أنفسهم ضحايا خطأ قضائي دائما.
وعموما، للظاهرة أساس ثقافي – سيكولوجي بالدرجة الأولى ولا علاقة لها بالعنصرية أو الإسلاموفوبيا أو التمييز.. وهو التفسير الذي ضلل الحكومة الفرنسية وجعلها عاجزة عن التصدي للتوحش المتزايد.