بقلم: مفتاح شعيب – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- تتراوح الأزمة المركّبة التي تعيشها تونس منذ سنوات، بين التصعيد السياسي والدعوات إلى الحوار، من دون أن تسفر الجهود عن نتيجة حيّة يمكن للمتابع أن يلمسها في الواقع، أو يستقرئها لدى الشارع. والسبب في ذلك، أن مساعي الحل دائماً ما تُجانب القضايا الجوهرية وتنقضّ على الثانويات التي هي مشكلات لا يخلو منها مجتمع، أو نظام.
أساس الأزمة التونسية يتعلق بالنظام السياسي الذي تم تسويقه بعد الإطاحة بالرئيس الراحل زين العابدين بن علي في لحظة انفلتت فيها الأوضاع، وتكالب عليها المتدخلون و”المنظّرون” لاغتنام ما اعتبروه فرصة تاريخية لإخراج البلاد من جلدها، والاستئثار بالسلطة، وعقد الصفقات المشبوهة لتقرير مصير شعب موغل في التمدن، وأثبت في هذه المرحلة العصيبة أنه أنضج وأرقى من نخبته السياسية التي يدعي بعضها أنه سابق لعصره. وبسبب هذه المفارقات اتسعت الشقة بين الحاكم والمحكوم، وفي غياب الانسجام والثقة بينهما، بدأت الأزمات تتراكم، وتتوالد فقراً ويأساً وبطالة وإرهاباً، ولم تفلح المحاولات العديدة للإصلاح في إنجاز شيء يذكر. وبعد مرور عقد من الزمان يبدو أن الأمور بدأت تقترب من لحظة حسم أخرى لتنقية المشهد السياسي، وإنهاء الصراعات السياسية التي خرجت، في أغلب الأحيان، عن أسوأ الأطر والقواعد الديمقراطية.
قيس سعيّد، الذي بدا في أكثر من مناسبة خارج السياق، يحاول أن يدفع باتجاه التدارك وتصحيح الوضع، وقد دعا مجدداً إلى حوار وطني يقود إلى الاتفاق على نظام سياسي جديد، وتعديل دستور 2014 الذي كانت حركة “النهضة” الإسلامية من أكبر عرّابيه، وتعمّدت مع قوى أخرى تفخيخه بالعقبات القانونية، وتشتيت الصلاحيات. وتلك نوايا لم تكن غائبة عن المراقبين في ذلك الوقت، ولكن الغبار الذي أحدثه ما يسمى “الربيع العربي” كان كثيفاً، واستطاع أن يحجب الواقع حتى بدأت الحقائق تنجلي، وأصبح التغيير ضرورة موضوعية قبل أن تكون سياسية وقانونية.
بداية الإصلاح الفعلي تبدأ بتعديل الدستور وشطب كل فصوله الملغومة، والإعراض عن هذا النظام البرلماني المختلط الذي لم يجلب غير المناكفات والمهازل، وتشويه سمعة البلاد في الخارج، فضلاً عن إنتاج سلطة ضعيفة في الداخل أثبتت التجربة أنها عاجزة عن أداء مهامها في معالجة التحديات القائمة في البلاد. ورغم تغيير الحكومات والوزراء ظلت الأوضاع تتدهور إلى الأسوأ، والسبب في ذلك يعود إلى تضارب الصلاحيات بين رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان. أما عدم اتضاح حدود الصلاحيات لدى كل منهم، فقد أصبحت قضية للسجالات والمعارك الكلامية التي تدل على أن المشهد السياسي لم يعد صحياّ لإدارة الدولة وخدمة الشعب.
منذ أشهر يكرر الرئيس قيس سعيّد التحذيرات من أنه يعرف الجهات التي تقف وراء “افتعال الأزمات وتحريك الشارع”، وقد كرّرها في مناسبات عدة، متوعداً بمحاسبة المسؤولين. وبحكم منصبه ورمزيته، بإمكانه أن يفعل الكثير لإنقاذ البلاد، وإن كان ذلك عبر حوار وطني جديد، شرط أن يكون إيجابياً وبنّاء، ولا ينتج الأزمات نفسها.